بعد اكتشاف الأشعة الميكرونية الكونية وازدياد الدلائل الرصدية التي بحوزة علماء الكون في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أصبحت نظرية الانفجار الكبير هي النظرية التي تحكم فهمنا للكون من دون منازع.

لكن كما هي العادة، كلما نجحت نظرية علمية بالإجابة عن أسئلة معينة، أطلت برأسها أسئلة أخرى جديدة، وذلك إما نتيجة لحقائق جديدة، لم نكن نعرفها من قبل، أو نتيجة لتسليط الضوء على حقائق قديمة ما زالت بحاجة لإجابة أو لم تكن ذات أهمية قبل صعود النظرية.

أي أن هدفًا أساسيًا من أهداف النظريات العلمية، هو إعطاؤنا صورة متناسقة خالية من التناقضات ومن الثغرات قدر الإمكان عن الواقع الموضوعي.

وإذا ظهرت مثل هذه التناقضات والثغرات فعلى العلماء إيجاد حلول لها من خلال تلك النظرية العلمية، وإذا لم ينجحوا بذلك فهم عادة يحاولون تعديل هذه النظرية لتمكينها من التعامل مع مثل هذه الصعوبات، وإن لم ينجحوا، يبدأون في التفكير باستبدال النظرية القائمة جملةً وتفصيلًا.

هذا فعلًا ما حدث مع نظرية الانفجار الكبير. فمن جهة استطاعت تفسير عددٍ كبيرٍ من المعطيات التي نرصدها في كوننا، كما ونجحت في تنبؤ الكثير من خصائص الكون التي أثبتت الأرصاد لاحقًا صحتها.

لكنها أثارت من جهة أخرى تساؤلات لم تكن بالحسبان من قبل، بالذات ثلاث تساؤلات كبيرة، لم يكن باستطاعة نظرية الانفجار الكبير أن تتعامل معها أو تفسرها.

لهذا ابتدأ علماء الكون بالتفكير في تعديل نظرية الإنفجار الكبير ودمجها مع نظرية أخرى أسموها نظرية التضخم الكوني.

ظهرت نظرية التضخّم الكوني حوالي العام 1980، وتم اقتراحها من قبل عدد من العلماء بشكل مستقل تقريبا، أشهرهم ألكسي ستاروبنسكي (Alexei Starobinsky) وأندريه ليندي (Andrei Linde) في الاتحاد السوفيتي وآلان جوث (Alan Guth) في الولايات المتحدة. لقد عرض كل منهم نموذجًا مستقلًا يمر به الكون بعملية تضخم هائل يكبر فيه بشكل مذهل (حوالي الـ 10 أس 30 ضعفًا) في غضون جزءٍ صغيرٍ من الثانية، وذلك خلال مرحلة التوحيد العظيمة للقوى.

وهي المرحلة التي كانت بها القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوة النووية القوية متّحدة معًا في إطار قوة واحدة.

عملية التضخم هذه هي تحول طوري (phase transition) في حالة الكون، تفوق خلالها سرعة انتشاره سرعة الضوء بكثير!

لكن ما الذي دعى العلماء إلى اقتراح مثل هذا النموذج الغريب؟ وكيف يمكن لشيء ما أن يسير أسرع من الضوء؟

المشاكل الأساسية الثلاث في نظرية الانفجار الكبير

واجهت نظرية الانفجار الكبير في السبعينيات من القرن الماضي، عددًا من المشاكل الكبيرة التي أظهرت حاجة إما لإيجاد نظرية بديلة تمامًا عنها، أو أضافة مركّب جديد متمم لها يتعامل بشكل مرضي مع هذه المشاكل. أهم هذه المشاكل هي المشاكل الثلاث التالية:

1. مشكلة الأفق (The Horizon problem):

تحررت الأشعة الميكرونية الكونية الخلفية (Cosmic Microwave Background) عندما كان عمر الكون 370 ألف عام، بحيث تأتينا من كل الاتجاهات بشكل متساوٍ ولها نفس الحرارة بالضبط، 2.726 كلفن (حوالي الـ-270 درجة مئوية تحت الصفر)، مع تغيرات ضئيلة جدًا بدرجة واحدة من مئة ألف.

أي أن هذه الأشعة تصلنا من بعد يعادل 13.5 مليار سنة ضوئية تقريبا من كل اتجاه، وهذا هو أكبر دليل على تجانس الكون المدهش.

الآن، لنأخذ نقطتين متعاكستين على صفحة السماء، مثلا نقطة فوق القطب الشمالي ومقابلها نقطة فوق القطب الجنوبي. إذا كان بُعْد مصدر الأشعة عنا في الحالتين هو 13.5 مليار سنة ضوئية تقريبًا، يكون البعد بين هاتين النقطتين (النقطتين 1 و 2 في الرسم رقم 1) حوالي الـ 27 مليار سنة ضوئية.

لكن هذا البعد أكبر من أن يستطيع الضوء أن يصل به من النقطة الأولى إلى الثانية خلال عمر الكون (الذي هو 13.8 مليار عام فقط). أي أن النقطة الأولى تقع خارج أفق النقطة الثانية، والعكس صحيح.

ولكن إذا كانت هاتان النقطتان تقعان خارج أفق بعضهما البعض، كيف يمكن أن تكون لهما نفس الحرارة بالضبط؟

كيف وصلت المعلومات من النقطة الأولى إلى الثانية لتنسيق وضعهما الحراري بهذه الدرجة المذهلة؟

هذا التساؤل شكل معضلة حقيقية، إذ أن مثل هذا التنسيق يوجب علاقة سببية بين النقطتين ولكنهما أبعد عن بعضهما من أن تكون إمكانية لمثل هذه العلاقة.

لتسهيل تفسير ما تعنيه هذه المشكلة، نأخذ المثال التالي، لنفرض أن هناك حاسوبًا كبيرًا يبحث عن شخص يشبهك تمامًا في كل صفاتك، قد تتوقع أن يجد هذا الحاسوب عدّة أشخاص يشبهونك في العالم، ومن الممكن أن تفسر ذلك عن طريق الصدفة أو بأن لك علاقة قربى بهؤلاء الأشخاص.

لكنك لن تستطيع إعطاء أي تفسير منطقي إذا ما كانت نتيجة بحث الحاسوب أن كل فرد في العالم يشبهك إلى حد التطابق.

ولا بد أن تُفاجئ أكثر بكثير إذا ما اكتشفت بأن كل المخلوقات التي تعيش على كوكب غريب، يبعد عنا مليارات السنين الضوئية، مطابقة أيضا لك في صفاتها بشكل تام.

من الواضح أن مثل هذا التشابه العجيب يعرض مشكلة كبيرة، والذي لا بد من وجود سبب عميق لتفسيرها! لهذا وضعت هذه المعضلة تحد كبير أمام فهمنا لتاريخ الكون. فكيف لأجزاء مختلفة من الكون أن تعرف عن الشروط الفيزيائية لبعضها البعض من غير أن تكون لها أي علاقة سببية في الماضي؟

2. مشكلة الكون المسطح (The cosmic flatness problem):

لقد تطرقت في مقالات سابقة إلى أن المعطيات التي بين أيدينا تدلنا بشكل واضح بأن هندسة الكون مستوية (في زمن معين)، وأن هذه النتيجة غير مفهومة ضمنا. فلماذا يكون الكون ذو هندسة مستوية تمامًا، بحيث تكون طاقته العامة صفرًا، بالرغم من وجود عدد غير نهائي من الإمكانيات الهندسية الأخرى.

بل أكثر من ذلك فنحن نقيس هندسة الكون بواسطة معطيات مختلفة مثل الأشعة الميكرونية الكونية التي تحررت عندما كان عمر الكون 370 ألف عام؛ أو بحسب توزيع المجرات حولنا الآن أي بعد 13.7 مليار عام من تكون الكون؛ وغيرها من المعطيات التي تدلنا على حالة الكون في أزمنة مختلفة من تاريخه.

تبين لنا جميع هذه الدلائل أن هندسة الكون كانت مستوية وبقيت مستوية بدقة ملفتة للنظر، في كل مراحل تطوره على مر الزمن.

إضافة إلى ذلك، لو كانت هندسة الكون مغلقة أو مفتوحة (غير مستوية) ولو قليلًا جدًا في بدايته لكانت ستزداد انغلاقًا أو انفتاحًا مع الوقت.

لكن الكون الآن وبعد مليارات السنين ما زال مستويا بدقة كبيرة، لهذا نستنتج بأن الكون عندما نشأ كان مستويا بشكل مذهل.

ولكن كيف يحدث هذا؟ وما الذي يجعل الكون يولد مستويا بهذا الحد؟

هناك اتفاق عام لدى علماء الفيزياء بأن هذا لا يمكن أن يكون صدفة بل لا بد من وجود تفسير عميق لمثل هذه النتيجة المذهلة، والتي لها إسقاطات كبيرة على تطور الكون ومبناه.

نظرية الانفجار الكبير لا تفسر هذا، مما خلق أزمة جدية لهذه النظرية.

3. مشكلة المونوبول (أحادية القطب؛ The monopole problem):

تتعلق هذه المشكلة بعدم اكتشاف ما يسمى مونوبول مغناطيسي (magnetic monopoles؛ أحادي القطب المغناطيسي) في الطبيعة.

لتفسير هذه المشكلة علينا أن نتذكر أن النظرية الكهرومغناطيسية بيّنت بأن الكهرباء والمغناطيسية هما وجهان لنفس العملة.

لكن مع هذا هناك فرق أساسي بين الشحنة الكهربائية والمغناطيسية. فالشحنة الكهربائية تتواجد في الطبيعة كشحنة موجبة أو سالبة.

أما القطب (الشحنة) المغناطيسي فلا نجده في الطبيعة لوحده، إذ يأتي دائما بصورة قطبين مغناطيسيين شمالي وجنوبي.

القطب المغناطيسي الواحد (إما شمالي أو جنوبي) يسمى المونوبول المغناطيسي.

في الحقيقة الصيغة الكلاسيكية لمعادلات ماكسويل التي تصف سلوك القوة الكهرومغناطيسية لا تحوي قطب (شحنة) مغناطيسي منفصل، أي لا تسمح بوجود مونوبول مغناطيسي.

في السبعينيات من القرن المنصرم، كانت هناك عدة محاولات لإيجاد نظرية التوحيد الكبرى (Grand Unified Theory) التي توحد القوّة الكهرومغناطيسية مع القوّة النووية الضعيفة والقوّة النووية القوية. يظهر، في بعض هذه النظريات، المونوبول المغناطيسي بشكل طبيعي، وذلك حين ينكسر هذا التوحيد بشكل عشوائي وعندما تنفصل هذه القوى عن بعضها خلال عملية انتشار الكون وبروده.

ولكن إذا كانت هذه النظريات صحيحة، فلماذا لا نرى في الطبيعة شحنة مغناطيسية منفردة؟ هذه المشكلة أثارت قلق العديد من الفيزيائيين النّظريين في تلك الفترة وأصبحت تعرف باسم مشكلة المونوبول المغناطيسي.

علي أن أنوه بأن مشكلة المونوبول المغناطيسي ليست جوهرية بنفس مقدار مشكلة الأفق ومشكلة الكون المسطح.

لأن الأخيرتين تتعلقان بصفات هندسة الكون وقوانين الطبيعة الأساسية ونحن على يقين بوجودهما نتيجة لمعطيات واضحة.

أما مشكلة المونوبول فتتعلق بنظريات غير مؤكدة قد تكون صحيحة أم لا.

لكن على الرغم من ذلك كانت هذه المشكلة هي الدافع الذي حذا بآلان چوث لاقتراح نظرية التضخم الكوني.

التوسع المتسارع في مرحلة التضخم الكوني

التضخم الكوني هو عمليا انتشار متسارع ومفاجئ وكبير جدا، يتعدى بكثير انتشار الكون العادي. يكبُرُ فيه الكون خلال جزء صغير من الثانية بحوالي الـ10 أس 30 ضعفًا، أي يتضخم بمعدل يفوق الخيال وتبتعد أجزاؤه عن بعضها البعض بسرعة أكبر من سرعة الضوء بكثير.

لكن هذا التضخم المتسارع يتوقف بعد برهة قصيرة ليعود الكون الى حالة انتشاره العادية.

تواجهنا هنا عدة أسئلة، أولها كيف يمكن لمثل هذا التضخم الهائل أن يعطي حلولا للمشاكل التي عرضناها؟ وكيف يمكن للكون أن ينتشر بسرعة أكبر من سرعة الضوء؟ وأخيرًا، ما هي العملية التي تؤدي لهذا التضخم؟

نبدأ بالسؤال الأول، أي كيف تحل نظرية التضخم الكوني المشاكل الثلاث التي عرضناها.

نظرية التضخم الكوني وحلّ مشاكل نظرية الانفجار الكبير

1. “مشكلة الأفق” هي أن الكون يظهر في حالة اتزان حراري (أي له نفس الحرارة في كل نقطة) على مسافات تقع خارج أفق الضوء، وهو أمر يصعب فهمه.

تحل نظرية التضخم الكوني هذه المعضلة بالشكل التالي: لنفرض أن هناك منطقة معينة صغيرة (أصغر من أفق الضوء) في وضع اتزان حراري في بداية الكون، أي قبل مرحلة التضخم الكوني.

الشقّ العلوي من الرسم رقم 2 يُظهر هذه المنطقة باللون الأصفر، كما ويُظهر الخط الأزرق أفق الضوء في هذه المرحلة.

من الواضح أننا لا نواجه مشكلة هنا لأن المساحة الصفراء تستطيع أن تتبادل المعلومات بينها بسرعة أصغر من سرعة الضوء بحيث تنسق درجة حرارتها.

لكن عندما يمر الكون بمرحلة التضخم الكوني، يكبر قطر البقعة الصفراء في لمح البصر نتيجة لتضخم الكون ويبقى قطر أفق الضوء بدون تغيير يذكر خلال هذه العملية، كما يبيّن الشق السفلي من الرسم رقم 2.

أي أن ما نراه خارج أفق الضوء الآن، كان قبل التضخم الكوني داخل هذا الأفق، مما يفسر أن له نفس درجة الحرارة في كل مكان، ويحل بهذا مشكلة الأفق.

لتسهيل الأمر بصورة أكبر أعطي التشبيه التالي، نجد في أنحاء الشرق الأوسط المترامية أسماء عائلات متطابقة مثل زعبي وقعوار وغيرها.

في بعض الأحيان لا تكون علاقة بين حاملي هذه الأسماء وتطابق الاسم هو محض الصدفة.

ولكن في كثير من الأحيان، مثل زعبي وقعوار، تعود جذور حاملي أسماء هذه العائلات إلى نفس القبيلة أو العائلة الصغيرة التي تواجدت في مكان محدد في الماضي وتبعثر أبناؤها بمرور الزمن ليسكنوا في جميع أطراف الشرق الأوسط.

هكذا ايضا حال حرارة الأشعة الكونية في مناطق بعيدة جدا عن بعضها، فإن لها نفس القيمة لأنها كانت هذه المناطق قريبة من بعضها ثم تبعثرت في أطراف الكون وحتى خرجت خارج أفقه. وذلك لأن سرعة تبعثرها، نتيجة للتضخم الكوني، كانت أكبر بكثير من سرعة الضوء.

2. المشكلة التالية هي “مشكلة الكون المسطح”، التي تحلها نظرية التضخم الكوني بالشكل التالي: لنفرض أن هندسة الكون ابتدأت كهندسة غير مستوية، أي ذات انحناء سالب أو موجب.

عندما يتضخم الكون بشكل كبير جدا تنتشر إنحناءات الكون على مسافة أكبر بكثير من مساحة تأثيرها الأصلية بحيث تصبح مستوية أو مسطحة على اطار محلي.

يبيّن الرسم رقم 3 ما أقصده، انحناء الكون قبل التضخم هو أشد بكثير من انحنائه بعد التضخم. لنفرض أن المستطيل الأحمر يمثل حجم الكون كما نرصده الآن، فمن الواضح بأن انحناء الكون في داخل هذا المستطيل قبل التضخم هو انحناء شديد.

لكن بعد أن يتضخم الكون كثيرا يصبح الإنحناء في داخل نفس المستطيل أقل بكثير، بحيث يصبح قريبا جدا من الحالة المستوية. أي أن التضخم الكوني يقرّب هندسة الكون بشكل كبير من الهندسة المستوية، كما يبين الرسم رقم 3 بشكل واضح.

3. أما “مشكلة المونوبول” فحلها أيضا بسيط تحت نظرية التضخم الكوني، بشرط أن تحدث مرحلة التضخم بعد نشوء المونوبولات المغناطيسية.

كما ذكرت أعلاه، هناك بعض النظريات التي تؤدي إلى نشوء مونوبول مغناطيسي، لكن إذا تضخم الكون بشكل كبير بعد هذه المرحلة فإن المونوبولات تنتشر على مساحات شاسعة جدا بحيث تصبح كثافة عددها (أي عدد المونوبولات في وحدة حجم) صغيرة جدًا.

أي أن التضخم الكوني يجعل وجود هذه المونوبولات شحيح جدًا، مما يجعل إمكانية رصدها مستحيلة تقريبًا.

أسرع من الضوء!

لنعد الآن للسؤال الثاني الذي سألناه، كيف يمكن للكون أن ينتشر بسرعة أكبر من سرعة الضوء؟

ألا يناقض هذا النظرية النسبية؟ الإجابة المختصرة عن الشق الثاني من هذا السؤال هي بالنفي، أي أن انتشار كهذا لا يتعارض بالضرورة مع النظرية النسبية.

النظرية النسبية تمنع انتقال تأثير سببي بسرعة أكبر من سرعة الضوء، أي مثلا لا يمكن أن ندفع جسم بحيث نسبب له أن يسير بأسرع من الضوء، لكنها لا تمنع حدوث أحداث لا علاقة سببية بينها بسرعة أكبر من سرعة الضوء.

لا يحدث انتشار الكون بسبب دفع المادة به لبعضها البعض، بل لأن الفراغ (الفضاء) نفسه يتمدد نتيجة لقوانين النظرية النسبية العامة. بحسب النظرية النسبية العامة لا توجد أي مشكلة في أن يتحرك جسم بأسرع من سرعة الضوء، ما دامت هذه السرعة تنتج عن تغيير في هندسة الكون العامة.

من الممكن أن نصيغ هذا بشكل مختلف، النظرية النسبية الخاصة تمنع أيّ تغيير محلي، أي الذي يحدث نتيجة تفاعلات في منطقة محدودة، من أن يسير بأسرع من الضوء.

لكن النظرية النسبية العامة ليست نظرية محلية، بل هي تحكم الكون بأكمله ولا تأبه إذا ما ابتعد قسمٌ منه بسرعة أكبر من سرعة الضوء عن قسمٍ آخر ما دام هذا الابتعاد ليس نتيجة لقوى محلية. أي أن انتشار متسارع بسرعة تفوق سرعة الضوء هو أمر مسموح به في ظل النظرية النسبية العامة، بشرط أن لا يكون هذا التسارع نتيجة علاقة سببية بين الأجسام المختلفة في الكون.

نماذج التضخم الكوني

لكن ما الذي يسبب التضخم الكوني؟ لكي نفهم هذا علينا أن نعود إلى نظرية الكم.

تخيل حقل كمّي (quantum field) مختلف عن الحقول التي تولد القوى الأخرى في الطبيعة.

لنفرض أن هذا الحقل يتواجد في بداية الكون في نقطة لها طاقة وضعية عالية (مثل كرة تجلس على قمة جبل معين).

يبدأ هذا الحقل في التغيّر لكي يصل إلى أصغر طاقة وضعية ممكنة، كما تتدحرج الكرة التي نحررها من قمة الجبل إلى أن تستقر في قاع الوادي.

يبدأ هذا الحقل في التدحرج من اليسار إلى اليمين في الرسم رقم 4، ببطئ شديد في البداية ومن ثم بتسارع ليصل الحقل أدنى نقطة ممكنة، ويتذبذب حول هذه النقطة حتى يستقر في النهاية في القاع.

مرحلة تدحرج الحقل الكمي البطيئة (slow roll) هي المرحلة التي تسبب التضخم الكوني، بحيث يسبب هذا التدحرج انتشارًا أسّياً (exponential growth) للكون.

هذا هو الحل الذي طرحه ستاروبنسكي وليندي وچوث.

خلال الانتشار المذهل في مرحلة التضخم يكبر الكون بسرعة أكبر من سرعة الضوء ليصل أبعادًا كبيرة جدا نسبة لحجمه الأوّلي وتنخفض كثافته ودرجة حرارته بشكل كبير جدًا.

في مرحلة التذبذب يتخلص الحقل الكمي هذا من طاقته الوضعية ويتوقف عن التضخم المتسارع، أي يخرج من مرحلة التضخم الكوني ليعود إلى انتشار عادي ذو وتيرة عادية.

هذه عملية مهمة في مرحلة التضخم الكوني، وتسمى عملية الخروج السلس (The graceful exit phase).

في نهاية هذه العملية تتوقف مرحلة التضخم الكوني، وبها تنتج التموجات في الكون (كما ساوضح لاحقا) وتؤدي الى تسخين الكون مرة أخرى (reheating).

هذه هي الصفات العامة لنظرية التضخم الكوني والتي عمليًا يكبر بها الكون بشكل مذهل عن طريق تحرير طاقة كامنة في داخل هذا الحقل الكمّي الذي كان موجودا في الكون المبكر.

في الحقيقة، ظاهرة الطاقة الكامنة نراها كثيرا في حياتنا العادية. واوضح الأمثلة عليها هي عندما تنتقل المادة من وضع إلى آخر، مثلا عندما يتجمد الماء أو يتبخر.

هذه الظاهرة هي المسؤولة عن الشعور بأن حرارة الجو ارتفعت بعد سقوط الثلج في الشتاء، أو بعد هطول المطر، لأن الماء يطلق حرارته الكامنة عندما يتحول من بخار إلى ماء، أو من ماء إلى ثلج.

نشوء التموجات في كثافة الكون

إحدى إنجازات نظرية التضخم الكوني هي حل ما يعرف بإسم مشكلة التموجات (The fluctuations problem).

ذكرت في مكان آخر بأننا نرصد تموجات ضئيلة جدا (بمستوى واحد في المئة ألف) في الأشعة الميكرونية الكونية.

وذكرت أيضا أن هذه التموجات تتطور لاحقا لتكوّن المبنى المركب الذي نرصده حولنا في الكون.

تملك هذه التموجات صفات معينة تدل على أنها نشأت من عملية عشوائية وتتبع توزيع احتمالي معين، يسمى التوزيع الاحتمالي الطبيعي (Normal probability distribution).

السؤال الذي نسأله هنا هو، كيف نشأت هذه التموجات في الأصل، ولماذا لها هذه الصفات التي نرصدها؟ لم تقترح نظرية الانفجار الكبير أي إجابة عن هذا السؤال.

في الحقيقة لم تكن هناك أي نظرية واضحة تفسر وجود هذه التموجات حتى ظهرت نظرية التضخم الكوني.

لنتذكر أنه في لب هذه النظرية هناك حقل كمّي، وأنه نتيجة لنظرية الكم فإن هناك جانب عشوائي في قيمة هذا الحقل في كل نقطة ونقطة.

نتيجة لهذه القيمة العشوائية في صفات الحقل المسؤول عن التضخم، تنشأ تموجات عشوائية ضئيلة في كثافة المادة وحرارة الفوتونات.

ومن المثير هو أننا نستطيع أن نحسب ما هي صفات هذه التموجات العشوائية في كثافة المادة، لنجد أنها تنطبق تماما مع الصفات الإحصائية التي نرصدها لتموجات المادة والحرارة في الكون. وهذا كما ذكرت، إنجاز كبير لهذه النظرية.

هل نظرية التضخم الكوني هي نظرية علمية؟

هناك نماذج مختلفة لنظرية التضخم الكوني.

فهناك النماذج التي يبدأ فيها التضخم الكوني بعد انتهاء مرحلة التوحيد العظمى للقوى، وهنالك نماذج يحدث التضخم قبلها، وهناك النماذج البسيطة مثل النموذج الذي يظهر في الرسم رقم 4، وهناك نماذج معقدة.

لكل من هذه النماذج المختلفة إسقاطات ونتائج متنوعة من الممكن مبدئيًا أن نميز بينها بواسطة رصد الأشعة الميكرونية الكونية أو غيرها من المعطيات المتوفرة لنا.

هناك من ينتقد نظرية التضخم الكبير، بحق نوعا ما، على أنها ليست نظرية محددة بل اطار معين له صفات عامة نستطيع من خلاله ان نجد حلولا للمشاكل التي ذكرناها.

لكن ما هي التفاصيل العينية لهذه الحلول؟ هذا ليس واضحا! لكي أحدّد هذه النقطة سأعطي مثالًا.

في السنين الأخيرة قام القمر الإصطناعي على اسم بلانك برصد خواص الأشعة الميكرونية الكونية بشكل دقيق جدًا، بحيث أنه استبعد أن تكون النماذج البسيطة للتضخّم الكوني صحيحة.

لكن على الرغم من فشل هذه النماذج البسيطة أمام الرصد فلا يمكن أن نقول بأن القمر الاصطناعي بلانك دحض نظرية التضخم الكوني، لأنه فقط بيّن فشل بعض نماذجها.

وهذا بالضبط ما ينتقده البعض، إذ يبدو أنه لا توجد أي معطيات نستطيع الحصول عليها بحيث تدحض نظرية التضخم الكوني جملة وتفصيلًا، إذ أنها حتى لو دحضت جميع النماذج التي بحوزتنا فمن الممكن دائما أن يكون هناك نموذج آخر يصمد في وجه تحديات الأدلة الموضوعية.

للتذكير كان شرط فيلسوف العلم كارل بوبر (Karl Popper) أن تكون النظرية علمية هو أن تكون هذه النظرية قابلة للدحض (Falsifiable).

بالمقابل يرد المدافعون عن نظرية التضخم الكوني بأن النماذج العينية التي يقترحونها قابلة للدحض. أي أن شرط بوبر ينطبق على النماذج المعينة وليس على الإطار العام الذي تضعه نظرية التضخم الكوني.

هذا بالإضافة إلى أن نظرية التضخم الكوني تفسر لنا ظواهر جديدة بالإضافة للمشاكل الثلاثة التي عرضتها مسبقا.

أي أن شباكها تصل أبعد من المساحة التي خططت لها (اي حل المشاكل الثلاثة) وإنما تذهب بعيدا لتفسر امورا اخرى لم تخطر ببالنا مسبقا، وهذا أيضا من الصفات المرغوبة بها في النظريات العلمية.
ختام

نظرية التضخم الكوني هي أكثر النظريات شعبية بين علماء الكون التي يعتقد معظمهم بصحتها، وذلك نتيجة الظواهر العديدة التي تفسرها.

على الرغم من هذا، هناك بدائل مقترحة لنظرية التضخم الكوني، مثل نظرية الأوتار (string theory) أو نظرية الكون الإكبروتي (The ekpyrotic universe) أو نظرية الإنتقاء الكونية (Cosmological Natural selection).

لن أدخل هنا في شرح هذه النظريات لأنها تتعدى حدود التفاصيل التي أبغيها في هذا المقال. سأذكر فقط أن هذه النظريات هي نظريات مثيرة للاهتمام، على الرغم من أنها غير مقبولة على أغلب العلماء في المرحلة الحالية، نتيجة مشاكل معينة تواجه كل منها.

لهذا أنصح القارئ المهتم بأن يطّلع على هذه النماذج الكونية واسقاطاتها المثيرة للخيال في مصادر أخرى.

المثير في الأمر أن نماذج التضخم الكوني التي تسمح بها المعطيات التي جمعها القمر الاصطناعي بلانك، هي نماذج عديدة ومختلفة لكن المشترك بينها جميعا هو أنها تُنتج أكواناً مختلفة كل الوقت.

وهو ما يسمى في علم الكون الحديث نظرية الأكوان المتعددة (multiverse).

وهي امكانية مثيرة تخلص بأن كوننا ليس هو الكون الوحيد وإنما هناك عدد كبير جدا من الأكوان قد يكون حتى لانهائيًا.

الطريف في الأمر أن امكانية الأكوان المتعددة شغلت الفلاسفة منذ عهد اليونانيون القدماء فقد تناولها الرواقيون والذرّيون.

وفي الحضارة العربية الاسلامية نوه الإمام الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” إلى أن “العالم المخصوص بهيئات مخصوصة كان يجوز أن يكون على هيئات أخرى بدلا عنها”.

وفي بداية العصر الحديث ذكر الفيلسوف الألماني ليبنتز (Leibnitz) قوله المشهور “أننا نعيش في أفضل عالم من كل العوالم الممكنة”.

بخلاف لايبنتز أنا لا أعتقد بأننا نعيش في “أفضل” عالم ممكن، لكن مجرد إمكانية وجود أكوان أخرى، تفتح أمامنا آفاق فكرية هائلة.

والأجمل من هذا أنها تغرقنا بفيض من الأسئلة التي تثير خيالنا وتحفز عقولنا نحو المزيد.


  • إعداد: د. سليم زاروبي
  • تحرير: صهيب الأغبري