القيام بالرحلات من الأشياء الأكثر متعةً، لكنها أحيانًا تعرّض حياتك للخطر.

إن أي سفينةٍ أو عبّارةٍ معرضةٌ للغرق بالكامل بسبب المد العالي والعواصف العاتية، ففي عام 1954 غرقت خمس سفنٍ في مضيق تسوغارو (المسطح المائي الذي يفصل بين جزيرة هوكايدو ومقاطعة أوموري باليابان) بعد أن عصفت بها الأعاصير.

غضب الناس بسبب ذلك، لم يكن بناء الجسر حلًا بديلًا، لأن الرياح القوية سوف تدمره بسهولة. كان البديل الأكثر أمانًا هو الأكثر إثارةً للعقل، وهو بناء نفقٍ تحت الماء، وقد تم ذلك فعلًا.

في عام 1998 لم تقم الحكومة ببناء نفقٍ عادي، بل كان الأعمق والأطول من نوعه، يقع نفق سيكان على عمق 140 مترًا تحت قاع البحر ويمتد بطول 54 كم تقريبًا!

طريقة بناء الأنفاق تحت الماء

لكن السؤال هو كيف شُيّدت هذه الأعاجيب الهندسية في العالم مع الكمية الكبيرة للطين والماء التي ستتدفق حتى من أصغر الثقوب؟

درع الأنفاق

بُني أول نفقٍ تحت الماء في العالم تحت نهر التايمز المتدفق عبر مدينة لندن، في أوائل القرن التاسع عشر عندما كانت لندن محور التجارة في أوروبا وكثير من بقية دول العالم.

كانت الموانئ مزدحمةً بالسفن التي تحمّل الفحم والسلع الأخرى, وكانت الطرق مليئةً بالسيارات التي تجرّها الخيول، وكان الازدحام يبعث على القلق، لا سيما وأن الصناعة كانت في حالة نموٍّ كبير.

كانوا بحاجةٍ إلى طريقةٍ لزيادة معدّل التجارة والسفر دون زيادة حركة المرور المائية.

كانت فكرة بناء نفقٍ تحت الماء في ذلك الوقت غريبةً جدًا، بل كانت ضربًا من الخيال، ومع ذلك، فقد أدرك المهندسون أنها الحل الأكثر فعالية.

وبالطبع كان هناك مخاطر، إذ يمكن أن يتدفق الماء والطين على عمق أمتارٍ كثيرةٍ تحت تأثير الضغط من خلال الشقوق وبالتالي يُدمّر النفق بأكمله، وسيكون ذلك كارثيًا.

ومع ذلك، طور مارك برونيل (المعروف بكونه أحد أكثر مهندسي المملكة المتحدة ذكاءً) في عام 1818جهازًا مبتكرًا يمكن أن يحفر ضمن قاع البحر دون السماح لأي طينٍ أو ماءٍ بالتسرب!

كان اختراعه عبقريًا، استخدم ما يُسمى الآن درع النفق، وهو حفّارةٌ بطول 12.19 مترًا (40 قدم) تشبه الغواصة محمية بواسطة جدارٍ من الفولاذ والآجر بثخانة 0.9 متر (3 أقدام).

لم يُحفر نفق نهر التايمز بين منطقتي وابينغ وَ روثيرث بواسطة آلة حفرٍ كبيرة، إنما من قِبل الناس الذين قاموا حرفيًا بشق الصخور.

ومع تقدم الحفر، كان العمال في الجهة الأمامية يحفرون، بينما يبني العمال الذين يقفون وراءهم الطوب على طول النفق الذي ظهر للتو، واضطر العمال إلى بناء مخرجين، أحدهما للتخلص من الطين والرمل والآخر للتخلص من المياه.

ما كان متوقعًا أن يستغرق ثلاث سنوات فقط، استغرق في الواقع حوالي 18 سنة، وأخيرًا تمت تقوية الطوب بالخرسانة وتم بناء نفقٍ قادرٍ على استيعاب المركبات التي تجرها الخيول، والقطارات في وقتٍ لاحق.
لا يزال النفق جزءًا هامًا من شبكة السكك الحديدية في لندن، ولفترةٍ قصيرةٍ اعتُبر الأعجوبة الثامنة في العالم.

الأنفاق مسبقة الصنع

بدلًا من بناء نفق، إذ يُحفر ويُبنى في ذات الوقت، يمكن أولًا بناؤه على الأرض ثم وضعه لاحقًا تحت الماء.

لا تُبنى مثل هذا الأنفاق قطعة واحدة، بل على أجزاء، إذ تُغلق الأجزاء الإسمنتية بإحكام لضمان تعويمها على سطح الماء.

وباستعمال الأوزان الإضافية، تُغرق أجزاء النفق حيث توضع في تجويفٍ ضيقٍ طويل يمتد على طول النفق المراد بناؤه.

يُجهّز التجويف عن طريق حفر خندقٍ قبل بناء الشرائح، ثم يُضمُّ كل جزءٍ بشكلٍ متتالٍ لتشكيل النفق، ويُضخ الماء المتدفق من المفاصل أثناء التركيب هيدروليكيًا، من ثم يكون النفق محكم الإغلاق ضد الماء.

وكل ما يتبقى لدينا هو نفقٌ طويلٌ ورائعٌ وفريقٌ من المهندسين السعداء.

بُني نفق تيد ويليامز في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يربط الجزء الجنوبي من بوسطن بمطار لوجان على هذا النحو: رُبطت اثنتا عشرة قطعةً طولُ كلٍّ منها 99 مترًا (325 قدمًا) لتشكيل هذا النفق، الأمر المذهل هو أن كل واحدة من المقاطع تحوي طرقًا شُيدت بالكامل مسبقًا!

في حين أن هذه التقنية فعّالة من حيث التكلفة، إلا أن لها العديد من العيوب.

أولًا، يُطلب من المهندسين توخي الحذر الشديد عند إغراق هذه الأجزاء، إذ يمكن أن يؤدي خطأ بسيط في محاذاة القطع إلى عواقب سيئة جدًا.

ثانيًا، وبسبب أن الأنفاق المغمورة مبنية ضمن خنادق، هناك احتمالٌ أن تكون بعض الأجزاء المواجهة للمياه مكشوفةً ومعرضةً للخطر.

هذه الأجزاء المكشوفة يمكن أن تؤدي إلى حوادث مروعة إذا اصطدمت بها السفن الغارقة أو المراسي.

وثالثًا، هو الآثار الضارة للحفر في قاع القناة، وبالتالي الآثار الضارة على البيئة والنظام البيئي.
الطريقة الأكثر ملاءمة هي استخدام آلة الحفر، لكن يجب أن يكون العمل ضخمًا.

بُني نفق القناة الذي يربط المملكة المتحدة وشمال فرنسا بواسطة آلات عملاقة تُسمى آلات حفر الأنفاق (TBM)، وهي آلةٌ تقوم بحفر الأنفاق عن طريق قطع الصخور وطبقات الأرض بشفراتٍ تدور بسرعة.

بالطبع، هذه الطريقة مريحةٌ لكنها مكلفة، علاوةً على ذلك فإن آلة الحفر الواحدة التي تكلف ملايين الدولارات غير كافيةٍ لبناء نفقٍ لوحدها.

تطلّب النفق بين المملكة المتحدة وفرنسا إحدى عشرة آلة حفر لبنائه، ومع ذلك، في حين أن الطريقة الأمثل لبناء نفق تعتمد على مدى الراحة وسرعة البناء وكمية الإنفاق، يبقى العامل الأهم هو طبيعة التربة التي ستُحفر.

نتيجة لذلك، لا يمكن الاعتراف بأي تقنيةٍ على أنها الأفضل على الإطلاق.


  • ترجمة: م. حبيب بدران
  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: صهيب الأغبري
  • المصدر