آفاق تكنولوجيا الكم تبدو واعدةً في مجال الأمن وبناء الحواسيب الخارقة، لكن الشيء الأساسي الذي تعتمد عليه هو التشابك الكمي، الذي يتقلب باستمرار، ما يجعل التحكم به أمرًا صعبًا. لكن الطريقة الجديدة التي توصل إليها الباحثون لتشابك الجسيمات أتت لتغير قواعد اللعبة، موفرةً لنا الكمّ الكافي من التشابك الكمي وقتما نشاء.

الفيزيائيون من مركز أبحاث QuTech في مدينة دلفت الهولندية، أصحاب خبرة في التشابك الكمي؛ يصفون الظاهرة التي تحدث عندما يكون جسيمان مرتبطان بصورة قوية، فكل ما يحدث للجسيم الأول يؤثر بشكل لحظي في الجسيم الآخر، مهما بلغت المسافة التي تفصلهما. لهذا وصف آينشتاين التشابك الكمي بالتأثير الغامض (الشبحي) عن بعد.

في عام 2015، نجح العلماء من دلفت بإغلاق ثغرة مزعجة، كانت ستجعل من التشابك الكمي ظاهرةً أقل غرابة مما وصفها آينشتاين، ففي تجربتهم استخدموا فوتونات منبعثة لتتشابك مع إلكترونات على بعد 1.3 كم من مصدر الفوتونات والمسافات التي تفصلهما أثبتت بالفعل أن التشابك الكمي ظاهرة غامضة لكنها أيضًا حقيقية، كانت المرة الأولى التي يتم فيها تأكيد التشابك الكمي دون تواجد أي ثغرات.

لكن الطريقة نفسها من مزج الفوتونات والإلكترونات قد أثبتت نجاعتها في تجربة أخرى؛ لعبت دورًا أساسيًا في طريقة جديدة لتوليد ما يصل إلى 40 تشابكًا كميًا في الثانية الواحدة وقتما نشاء!

يقول الفيزيائي (بيتر همفريز – Peter Humphreys) واضعًا التجربة في المنظور الصحيح: «هذه ألف مرة أسرع من الطريقة القديمة».

التشابك في التجربة الجديدة بحد ذاته قائم على تجربتهم الأصلية، إلكترونان متواجدان في حالة عدم اليقين يتم تحفيز كل منهما بواسطة فوتون، ثم يتم دمج الفوتونات في موجة واحدة يتم ترجمتها لتكشف لنا معلومات عن حالة الإلكترونين. وإذا سار كل شيء على ما يرام يتم اعتبار أن الإلكترونات متشابكة.

في الواقع لا تسير الأمور دائمًا كما هو مخطط لها، لكن من خلال إنشاء خط إنتاج مع بعض الضوابط والتوازنات الذكية، يمكن تكرار العملية برمتها بسرعة كافية للحفاظ على تشابك كمي مستمر. يقول مدير المشروع “رونالد هانسون – Ronald Hanson”: «هذه الضوابط لا تأخذ سوى جزء صغير جدًا من وقت التجربة، لكنها في المقابل تعطينا ضمانًا بأن النظام أصبح جاهزًا للتشابك، دون تدخل يدوي».

للإيضاح أكثر هذا فيديو يشرح آلية عمل التجربة :

لكن كيف تتم عملية التشابك الكمي؟ التشابك الكمي بحد ذاته ليس بتلك الغرابة، لا تستغرب. فقط أعرني انتباهك.

تصور معي أنك اشتريت زوجًا من الأحذية، لكنك وبدون قصد تركت أحدهما في المتجر. عندما ستعود إلى المنزل ستكتشف أي الأحذية (اليمين أو اليسار) تركته في المتجر من خلال النظر إلى علبة الحذاء الجديد.

هذا مشابه -إلى حدٍ ما- لما يحدث في التشابك الكمي. بينما يتفاعل جسيمان مع بعضهما البعض، يؤثر أحدهما على الآخر بصورة متوقعة، يمكنك النظر إلى أحدهما وتحديد شيء ما عن حالة الآخر، سواء كان الزخم، الدوران، أو الموقع.

لكن ما ترك آينشتاين في حيرة من أمره وارتباك هو الاقتراح بواسطة زملائه الفيزيائيين أنه وقبل النظر داخل علبة الحذاء، الحذاء يكون هو نفسه اليمين واليسار في نفس الوقت! والأمر مماثل للحذاء الذي تركته في المتجر. بعبارة أخرى، الواقع الذي نعيشه لا يحمل حالةً محددةً إلا عند النظر إليه وقياسه. الجسيمات لها اتجاه دوران إلى أعلى وإلى أسفل، وفي مواقع متعددة، ولم تستقر على مقدار زخم محدد.

لذلك من المنظور الكمي، في اللحظة التي تكتشف أن الحذاء الموجود في العلبة هو الحذاء اليسار، سيتحول الحذاء الذي تركته في المتجر إلى الحذاء اليمين بشكل لحظي.

لقد ظن آينشتاين أن هذا أمر مبالغ فيه، لقد اعتقد أن الأحذية كانت هكذا، وقد تقرّر مصيرها منذ البداية. آخرون خالفوه الرأي، مؤمنون أن هناك مؤامرةً تحاك من قبل الحذائين إذ يتفقان عند اللحظة التي تنظر فيها إليهما. لكن رغم غرابتها الشديدة فإن آينشتاين لا يزال على الأغلب مخطئًا. وعلينا تقبل الأمر كما هو، لأن التشابك الكمي قد تم اختباره مرارًا وتكرارًا.

لحسن الحظ فإن عدم اليقين هذا بشأن الحذاء اليمين واليسار يبدو أن له فائدة. إذا قمت بتطبيق أدوات التحليل الإحصائي المناسبة.

هذا هو حجر الأساس لما يعرف بالحواسيب الكمية، حالة عدم اليقين الكمية تسمى (qubits)، سوف تمكننا من حل مشاكل وحسابات من المستحيل إجراؤها عبر الطرق القديمة باستخدام الصفر والواحد المعتادين.

ماذا عن الظاهرة التي وصفها آينشتاين بالتأثير الغامض عن بعد والتي تقف خلف كواليس الواقع؟ نعم هي أيضًا مفيدة إذا كنت تريد أن لا يتمكن أحدهم من إلقاء نظرة على رسالتك المشفرة باللغة السرية، أو إرسال بيانات بسرعة لحظية عبر الشبكات الكمية.

لكن إبقاء الجسيمات في حالة (الحذاء يمين ويسار في ذات الوقت) ليس بالأمر السهل على الإطلاق. الواقع دائمًا ما يفتح لنا العلبة دون استئذان. لهذا السبب وجدت هذه التجربة.

هذه العمليات من الإطلاق المتواصل للفوتونات والمحاولة والخطأ عند دمجها مع بعضها، يضمنان لنا حماية الحالة الكمية من التشويش الخارجي في الواقع، ما يعني أنه ولأول مرة يمكن إنشاء التشابك الكمي بسرعة أكبر من سرعة اضمحلاله، ما يعني استمراره.

من المهم جدًا تطوير التكنولوجيا الكمية بوتيرة أسرع إذا أردنا التغلب على العقبات التي تقف أمام جعل الحوسبة الكمية عمليةً ويمكن الاعتماد عليها. سواء كانت غامضةً أم لا، بخطوات بطيئة نقوم بكشف طبيعة الواقع شيئًا فشيئًا.

هذا البحث نُشر في مجلة نيتشر.


  • ترجمة: بلال عبد الحي
  • تدقيق: أحلام مرشد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر