طوال تاريخ البشرية الطويل والدموي في أغلب الأحيان، كانت هناك معارك كسب فيها أحد الأطراف الأرض وفقدها مرة أخرى على الفور.

وكثيرًا ما شابت الانتصارات الواقع المتزن للخسائر الفادحة على الجانبين المنتصر والمهزوم.

تبدو العديد من الاشتباكات العسكرية وكأنها مضيعة للوقت عند استعادة الأحداث، ولكن هل هناك أي معارك قد حدثت ولم يكن لها أي داعٍ؟

هناك للأسف العديد من المعارك المرشحة للقب الأكثر عبثية.

بعض تلك المعارك تم التخطيط لها وتنفيذها بشكلٍ مريع، مثل غارة دييب الفاشلة في 19 أغسطس 1942، التي فقدت فيها قوات الحلفاء -الفاقدة للدعم- أكثر من 3000 جندي أثناء محاولتهم الاستيلاء على ميناء فرنسي تحت السيطرة الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.

اندلعت معارك أخرى حول خفايا تافهة بشكل مذهل، مثل ما يسمى بـ “حرب المعجنات” عام 1838.

وقد اندلعت هذه المشاحنة بين فرنسا والمكسيك والولايات المتحدة عندما طالب فرنسي بتعويضه عن ممتلكاته المفقودة في المكسيك، وهو متجر للمعجنات، والذي دمرته القوات المكسيكية ونهبته في العام السابق، وفقًا لموسوعة بريتانيكا.

ومع ذلك، فالمرشح الأقوى للقب المعركة غير المجدية في كل العصور هو المناوشة الأوروبية التي زعم أنها وقعت في 21-22 سبتمبر عام 1788.

في هذه المعركة، لم يكن هناك فائز ولا خاسر، كما أن المنتصر والمنهزم كان واحدًا وهو الجيش النمساوي.

إنه سيناريو محير، كما كان محيرًا بنفس القدر بالنسبة للنمساويين الذين كانوا في ذلك الوقت منخرطين في الحرب النمساوية التركية، التي اندلعت بين عامي 1787 و 1791 ضد الأتراك العثمانيين، كما كتب إريك دورشميد (Eric Durschmeid) -وهو مراسل حربي سابق لهيئة الإذاعة البريطانية- في كتابه “العامل المفصلي: كيف غيرت الفرصة والغباء التاريخ” (دار النشر، 2016).

أطلق الجنود النمساويون ردًا مميتًا على ما كان يُنظر إليه أنه هجوم تركي بالقرب من مدينة كارانسيبيز (التي تطلق عليها أيضًا كارانسيبي) في رومانيا الآن (ثم ترانسيلفانيا).

وما أن انجلى ظلام الليل وغبار المعركة حتى اكتشف الجيش النمساوي أنه كان يقاتل نفسه طوال الوقت، رغم اختلاف الآراء حول حجم تلك المجزرة، وفقا لدورسشميد.

بداية سكران

بدأ “الهجوم” في ليلة 21 سبتمبر بينما كان الجيش النمساوي تحت قيادة الإمبراطور الروماني المقدس جوزيف الثاني (Joseph II)، في مسيرة ليلية للاشتباك مع الجيش التركي، حسب المؤرخ تشارلز كيرك (Charles Kirke)، المحاضر في الأنثروبولوجيا العسكرية في جامعة كرانفيلد.

في المملكة المتحدة، كتب في كتاب “Fratricide in Battle: (Un) Friendly Fire”.

وعندما توقف الجيش بالقرب من كارانسيبيز (Karánsebes) لأخذ قسطٍ من الراحة، قام ضباط سلاح الفرسان المتعبون والعطاشى بشراء الخمور وبدؤوا بالشرب.

بعد فترة وجيزة، اندلع اشتباك بين الفرسان والمشاة، وأطلقوا النار وأثاروا صراخًا ويمزحون بأن الجيش تعرض لهجوم من قبل الأتراك، والذي أثار حالة من الذعر سرعان ما انتشرت بين الرتب حسب ما أورده كيرك.

وكتب يقول: «في حين كان من الواضح أنها كانت مزحة في أعين الجنود القريبين، كان الجنود في الصفوف الخلفية سمعوا الصراخ وإطلاق النار في الظلام أمامهم، يتوقعون الأسوأ».

واندلعت المناوشات في الوقت الذي أصيب فيه آلاف الجنود بالذعر وألقوا أنفسهم في النزاع وأطلقوا النار في الظلام على أي شيء يتحرك.

وما أن ارتفعت الشمس فوق المشهد الدموي -ربما قتل أو جرح ما يقرب من 10000 جندي نمساوي- أصبح من الواضح أنه لم يكن هناك جنود أتراك في المنطقة.

وعندما ظهر الجيش التركي بعد يومين، تمكن بسهولة من التفوق على النمساويين المحبطين، واستولوا على كارانسيبيز غير المحمية، بحسب كيرك.

سجلات متقطعة

ومع ذلك، فإن السجلات التاريخية حول الحادث متقطعة، وتثير تساؤلات حول ما إذا كانت المعركة قد حدثت كما تشير الحكايات الشعبية، وتشير إلى أن القصة المحرجة لخطأ الجيش النمساوي قد تكون شابتها المبالغات مع مرور الوقت، كما يوضّح المؤرخ ماثيو ماير (Matthew Mayer) في أطروحته للدكتوراه حول حملة 1788.

حسب ماير، كتب الإمبراطور جوزيف في رسالة لأخيه: «الصف الذي وجدت نفسي فيه مشتت بالكامل…

المدافع والعربات وجميع الخيام انقلبت، كان الأمر مروعًا؛ الجنود أطلقوا النار على بعضهم البعض! في نهاية المطاف استعدنا الهدوء، وكنا محظوظين لأن الأتراك لم يكونوا على دربنا وإلا لَكان الجيش بأكمله قد دُمِّر».

ليصرح جوزيف حول الكارثة بشكلٍ أكبر في رسالة إلى مستشار النمسا، وينزل أنطون فون كونيتز (Wenzel Anton von Kaunitz)، وفقا لدورسشميد.

«هذه الكارثة التي عانى منها جيشنا بسبب جبن بعض الوحدات لا يمكن تقديرها في الوقت الراهن.

كان الذعر في كل مكان، بين الجيش وبين سكان كارانسيبيز، وعادت إلى تيميسفار [مدينة في غرب رومانيا] عشر فرق جيدة».

لكن لا يوجد ذكر للإصابات الكبيرة في رسائل جوزيف أو في سجلات تاريخية أخرى، ورسالة جوزيف إلى أخيه تتضمن فقط وصفًا موجزًا للأضرار التي لحقت بالجيش، والتي تضمنت فقدان “كل الأواني والخيام” و “ثلاث قطع من المدفعية”.

من الممكن أن تكون النسخة الأكثر إثارة للمعركة التي تظهر في كتاب كيرك المستوحاة من سيرة “جوزيف الثاني” (Twayne Publishers، 1968)، حيث يذكر المؤرخ بول برنارد فقدان 10.000 رجل لكنه حذف إسناد العدد، أشار ماير.

وختم ماير حديثه قائلًا: «بما أن برنارد لم يعطِ مصدره، يجب أن يُنظر إلى وصف جوزيف على أنه الأكثر دقة بين الاثنين».


  • ترجمة: إسلام محمد رشاد.
  • تدقيق: جعفر الجزيري.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر