قبل مئة عامٍ من الآن ضربت جائحةُ إنفلونزا العالم، وأصابت خمسمئة مليون إنسانٍ وقتلت قرابة مئة مليون، أي أكثر من الوفيات الناتجة عن الحربين العالميتين مجتمعتين!!

إذ أصاب الفيروس ثلث سكان العالم وقتل 5% من البشر، وأُطلق على هذه الجائحة اسم (الإنفلونزا الإسبانية – (Spanish influenza، وكان سببها فيروس H1N1 الطافر شديد العدوى والفوعة، يُعتبر هذا الوباء الذي حدث في 1918 – 1919 الأكثر فتكًا وقتلًا من بين جميع الأوبئة التي حدثت في التاريخ البشريّ.

منذ ذلك اليوم وهناك سؤالٌ هامٌ يراود العلماء، هل يمكن أن تضرب جائحة إنفلونزا أخرى العالم بمستوى قوة وفتك الإنفلونزا الإسبانية؟

يقول البروفيسور جورج بولاند

(أستاذ الفيروسات والقاحات في مايو كلينك -Mayo (Clinic: »لا شك أنَّ جائحة إنفلونزا فتاكةً ستحدث يومًا ما عاجلًا أم آجلًا، وهذا أمرٌ مؤكدٌ 100%، ولكنَّ الفارق أنَّه أصبح بالإمكان أن نواجه هذا الوباء في حال حدوثه ونقوم بالعديد من الإجراءات التي يمكن أن تقلِّل انتشار الفيروس وتخفف عدد الوفيات إلى الحد الأدنى«.

تأكيد العلماء على احتماليةٍ كبيرةٍ لحدوث وباء إنفلونزا في أي وقتٍ يعود لعدة أسباب، منها أنَّ فيروسات الإنفلونزا تتعرَّض بشكلٍ مستمرٍ لطفراتٍ في المادة الوراثية، وبعض هذه الطفرات تُكسب الفيروس خصائص جديدةً مثل القدرة على مقاومة وتدمير جهاز المناعة البشري بسهولة، وإحداث قصورٍ تنفسيٍّ وجهازيٍّ بسرعةٍ هائلة.

ويمكن أن نطلق على الأمرين السابقين »فوعة الفيروس«، وإنَّ بعض الطفرات الأخرى تجعل الفيروس شديد العدوى والانتشار بين البشر، أو تسمح للفيروسات الحيوانية بالانتقال للإنسان (من حيوانٍ لإنسان، ولاحقًا من إنسانٍ لإنسان).

ومن خصائص فيروسات الإنفلونزا أنَّها تصيب الحيوانات بالإضافة للإنسان؛ بمعنى أنَّ لديها مستودعاتٌ حيوانيةٌ متعددةٌ مثل الطيور، والخنازير، الأمر الذي يزيد احتمالية العدوى واحتمالية تعرُّض الفيروس لطفراتٍ خطيرة.
فما الذي يمكن أن نفعله لمواجهة هذا الخطر المُدمر الذي قد يُهدِّد الحضارة البشرية في أي لحظة، وما هي الأشياء التي تغيَّرت منذ عام 1918 إلى اليوم؟

ببساطةٍ لقد تطوَّرت العلوم، ومنها علم الطب بشكلٍ هائلٍ خلال المئة عامٍ الماضية، وحدث تغيُّرٌ كبيرٌ في فهمنا للجراثيم والفيروسات ومنها الإنفلونزا بالطبع.

فطريقة حياة وتكاثر وانتقال هذه الفيروسات أصبحت معروفةً بدقة، وأغلب الطفرات تمَّ تحديدها ودراستها بشكلٍ كاملٍ، وبناءً عليه تُنتجُ أدويةٌ فعَّالةٌ أغلبها يعمل على تثبيط نسخ المادة الوراثية للفيروس وتكاثره، ويتم إنتاج لقاحاتٍ سنويَّةٍ للإنفلونزا وهذه اللقاحات مع أنَّها موجَّهةٌ نحو الأنماط المعروفة من الإنفلونزا؛ لكنَّها مفيدةٌ أيضًا في تخفيف فوعة وخطورة الأشكال الحديثة والطافرة من الفيروس بسبب التداخل المورثيّ (تشابه جزءٍ من المادة الوراثية بين الفيروس القديم والفيروس الجديد).


حتى في حال حدوث جائحة إنفلونزا بفيروسٍ جديدٍ طافرٍ لا يستجيب على الأدوية أو اللقاحات الموجودة بين أيدينا حاليًا، يمكن لبعض مراكز الأبحاث المتطورة الموجودة في الولايات المتحدة وبعض الدول المتقدمة عزل الفيروس الجديد وإنتاج لقاحاتٍ للتمنيع ضدَّه في وقتٍ سريع.
في أسوأ الاحتمالات، وعند فشل تطوير لقاحٍ فعالٍ ضدَّ الفيروس الجديد سيكون لإجراءات العزل والوقاية والصحة العامة التي باتت معروفةً للجميع دورٌ كبيرٌ في تحديد انتشار الفيروس وتقليل الوفيات التي يمكن أن يُحدثها.
عودًا على بدء، هل يمكن أن تحدث جائحة إنفلونزا فتاكة كتلك التي حدثت قبل مئة عامٍ وأدت لعشرات ملايين الوفيات؟

العلم يجيب أنَّ احتمال ذلك كبيرٌ، لكن في حال حدوثها فإنَّ احتمال احتواء الجائحة والسيطرة عليها كبيرٌ أيضًا بفضل التطور العلميّ غير المسبوق الذي اكتسبته البشرية خلال القرن الأخير.