بالنسبة للعديد من الأشخاص، فإن تذكر الوجوه التي مرت عليهم منذ 30 سنة مضت يمكن أن يكون صعبًا لحد ما، و لكن خلايانا المناعية يمكنها تذكر أعدائها القديمة بشكل جيد، وحتى الآن فنحن غير واثقين تمامًا من كيفية فعلهم لذلك.

ولكن دراسة جديدة ساهمت بإكمال التفاصيل الناقصة عن الخطوات التي يقوم بها جسمنا من أجل تذكر العوامل الممرضة، وكشفت أخيرًا الخطوات التي تأخذها خلايانا المناعية من أجل الاحتفاظ بسجل ضخم من معاركها السابقة.

حيث استخدم علماء من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، نظائر هيدروجينية لوسم خلايا الدم البيضاء داخل متطوعين، ثم قاموا بتعقب فيروس اختير خصيصًا من عدوى للجهاز المناعي وذلك من أجل تسجيل الخطوات الهامة في العملية المناعية.

إن الصورة الكاملة لمعرفتنا عن مناعتنا المكتسبة وقدرتنا على تذكر وإزالة العوامل الممرضة قد ازدادت بشكل كبير في القرن الماضي.

تملك أجسامنا أنواعًا مختلفة من كريات الدم البيضاء التي تساعد في كشف وتدمير الخلايا الغازية. نوعان هما خلايا الدم البيضاء البائية B cells، التي تقوم بصنع وإفراز الأضداد التي تعمل على شكل “رقع اسمية” (واسمات) للعوامل الممرضة السيئة، و خلايا الدم البيضاء التائية T cells، التي تقوم بعدد من المهام المتعلقة بالمناعة مثل التعرف على العوامل الأجنبية.

وإن كلا هذين النوعين يتضمنان خلايا تعمل كالمؤرخين حيث يحتفظون ببقايا المعارك السابقة مثل الجنود القدماء.

وإن القصة الغامضة تبدأ عند محاولة معرفة كيف تقوم هذه الخلايا المناعية بعملها في التعرف والاحتفاظ بهذه الأحداث -على الأقل على المستوى الكيميائي-.

ويقول خبير التغذية والمؤلف الرئيسي للدراسة مارك هيلرشتاين Marc Hellerstein من جامعة بيركلي في كاليفورنيا أن هذا البحث تناول أسئلة أساسية حول منشأ وطول عمر خلايا الذاكرة التائية CD+8 T Cells التي تتكون بعد انتان حاد .

الخلايا التائية السميةcytotoxic CD+8 T cells هي نوع من الخلايا القاتلة التي تتمايز في التيموس من أجل التعرف على خلايا الجسم نفسه قبل أن تُطرح لإيجاد الخلايا الغريبة عن الجسم مثل الخلايا السرطانية، البكتيريا، أو الخلايا المخموجة بالفيروسات.

وعند إيجاد هذه الخلايا الغريبة يقوم الجسم بتحريض أنواع خاصة من الخلايا التائية على التكاثر.

وهذا الجيش الصغير المتشكل يقوم بطرح مواد كيميائية داخل الخلايا الغريبة ” المعادية”، ويقوم بإحداث ثقوب في أغشيتها من أجل تدميرها.

ولكن ليس كل الخلايا التائية السمية تذهب للمعركة وتموت وهي تقاتل الأعداء، حيث أن بعضها يبقى في مكانه، ويبدو أنه مسؤول عن تركيب وتجهيز هجمات أسرع في حال عودة العوامل الممرضة أو الأورام.

ومن أجل معروفة الحقيقة حول هذه العمليات، قام الباحثون بإعطاء 40 متطوعًا ماء يحوي على عنصر (الديتيريوم) deuterium بدلًا من الهيدروجين النموذجي، وهذا بالنتيجة أدى لوسم كل الخلايا الجديدة التي أنتجها المتطوعون في أجسامهم ضمن فواصل مختلفة.

وقام الباحثون بعد ذلك بتلقيح المتطوعين بلقاح حي مضعف من الحمى الصفراء – وهو فيروس لا يتعرض له المتطوعون عادة في بيئتهم الطبيعية الأم.

ومع تشكل الخلايا التائية الجديدة CD+8 التي يمكن التعرف عليها بسهولة، تمكن الباحثون من تعقب الخلايا على مدى عدة أشهر وذلك من أجل اكتساب فكرة عن كيفية تغير أعدادهم وتركيبتهم الكيميائية.

حيث اكتشفوا أنه بعد الاستجابة الأولية للتلقيح، تشكلت مجموعة من خلايا الذاكرة.

وهذه الخلايا المتشكلة تبدو وتتصرف مثل الخلايا التائية السمية الساذجة، بدون اختلاف فيما بينها، حيث أن جيناتها موسومة فوق جينيا بذكريات المعركة.

ويقول هيليرشتاين أن هذه الخلايا هي مثل المحاربين القدامى، تخيم في الدم والأنسجة وتخوض معاركها هناك، بانتظار ظهور الحمى الصفراء، وترتاح هناك بصمت وتلبس ثياب الجنود الجدد عديمي الخبرة، ولكنها في الحقيقة خبيرة جدًا، وجاهزة للدخول في المواجهة والانتشار بشكل واسع و المهاجمة بعنف في حال عودة المحتلين.

إن هذه الحالة الهادئة هي السر في نجاحهم، حيث تسمح لهم في التخفي بشكل هادئ بعيدًا عن الأنظار، مستعدين للهجوم بقوة في اللحظة التي يعود بها العامل الممرض.

وسطيًا، تملك الخلايا التائية نصف عمر مقدر بحوالي 30 يومًا، وهذا يعني أنه بعد شهر معظم خلايا الدم البيضاء المتشكلة تكون قد ماتت.

أما هذه الخلايا التائية المتخفية تملك نصف عمر مقدر ب 450 يوم، مما يعني أن بعضهم يمكن أن يبقى لمدة سنوات، إن لم يكن عقود.

كلما كانت معرفتنا أكبر حول نظام الذاكرة في أجهزتنا المناعية، كلما تمكنا من استخدام هذه المعرفة لصالحنا.

ويقول هيليرشتاين في النهاية أن فهم مبادئ الذاكرة المناعية الفعالة طويلة الأمد يمكن أن يساعد العلماء على تطوير لقاحات أفضل، فهم الفروقات بين الأمراض وتشخيص نوعية الاستجابة المناعية الفردية للأشخاص .

نُشر هذا البحث في دورية الطبيعة Nature .


  • المترجم : عماد دهان.
  • تدقيق وتحرير: رؤى درخباني.

المصدر

مواضيع ذات صلة: