في حوالي القرن الرَّابع قبل الميلاد، اشتم الفيلسوف الإغريقي ديموقريطس (Democritus) رائحة الخبز، وظن آنذاك أنَّه لا بدّ من أن سبب الرائحة هو طواف قطع صغيرة من الخبز في الهواء نحو أنفه.

لقد أطلق على هذه القطع الصغيرة اسم “الذرَّات” (والتي تعني غير القابلة للتجزئة) وتخيَّلها ككرات صغيرة دائريَّة. لكن الذرَّات ليست كرات صلبة صغيرة.

بل إنها تتكون من قطعٍ أصغر منها تسمى بالجسيمات.

أفضل شرح علمي لهذه الجسيمات والقوى التي تتحكم في سلوكها يسمَّى بالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات (the Standard Model of particle physics)، أو باختصار “النموذج القياسي”.

يصنف النموذج القياسي كل الجسيمات الموجودة في الطبيعة، وذلك بنفس الطريقة التي يصنف فيها النموذج الدوري العناصر الطبيعية.

وتسمى النظرية بالنموذج القياسي لأنَّها لاقت نجاحًا كبيرًا وأصبحت “مقياسًا”.

رغم ذلك، تبقى بعض الأمور الغامضة التي يجب تسويتها. لذلك يطلق عليها في بعض الأحيان اسم “نظرية تقريبًا كل شيء”.

 

كيف بدأ هذا كله؟

في بدايات القرن العشرين، ظن العلماء بوجود ثلاثة جسيمات أساسية في الطبيعة فقط: البروتونات والنيوترونات التي تشكل نواة الذرَّة، والإلكترونات التي تحوم حولها.

لكن في الخمسينات والستينات، بدأ الفيزيائيون بإجراء تجارب تقوم على ضرب هذه الجسيمات ببعضها البعض وبعضها تحطَّم.

وتبيَّن بذلك وجود جسيمات أصغر تكوّن البروتونات والنيوترونات.

اكتُشفت العشرات من الجسيمات الجديدة، ولوهلة لم يتمكن أحدٌ من تفسير طبيعتها. يطلق الفيزيائيون على ذلك “حديقة حيوانات الجسيمات”.

في السبعينات من القرن الماضي، وجد فيزيائيون مثل موراي جيل مان (Murray Gell-Mann) نظامًا معينًا في تلك الفوضى.

وانتهج هؤلاء العلماء نفس طريقة ديميتري مينديليف (Dmitri Mendeleev) لوضع ترتيب للعناصر الكيميائية في الجدول الدوري.

الترتيب الجديد للجسيمات قام بتفسير العديد من الخصائص التي تتميز بها الجسيمات المكتشفة حديثًا، وكذلك توقع وجود أخرى بشكلٍ صحيح.

وهذه صورة توضح الجسيمات الـ 17 الأساسية المكونة للنموذج القياسي:

تعرَّف على العائلة:

جسيمات النموذج القياسي تشكل عائلة واحدة كبيرة.

قد يكون اللقاء الأول مربكًا، وذلك كحضور اجتماع مع أقرباء لم تسمع بوجودهم من قبل.

ومهما كان هؤلاء الأقرباء غريبين، من المهم أن نتذكر أنهم مرتبطون كلهم في هذه العائلة.

أساسيات:

قام جيل مان وآخرون بتصنيف الجسيمات في مجموعتين أساسيتين، وهما الفرميونات والبوزونات.

الفرميونات مثل الإلكترون، تشكل الأشياء التي نطلق عليها اسم المادة. البوزونات مثل الفوتون، تقوم بنقل القوَّات.

وتنقسم الفرميونات بدورها إلى نوعين من الجسيمات، وذلك يعتمد على القوة التي تقوم بنقلها. وهي أساسًا الكواركات واللبتونات (أنظر إلى الصورة أعلاه).

قوى الطبيعة:

تتواصل الجسيمات بين بعضها البعض عبر أربع قوى أساسية، هي القوة الكهرومغناطيسية والقوة الشديدة والقوة الضعيفة والجاذبيَّة.

يشرح النموذج القياسي القوى الثلاثة الأولى (لا يتضمن النموذج القياسي شرحًا للجاذبية كما سنشرح لاحقًا في المقال).

تتفاعل الجسيمات المختلفة عبر قوى مختلفة، كما يتواصل البشر بلغاتٍ مختلفة. على سبيل المثال، فقط الكواركات بإمكانها الحديث بلغة “الغلوون”.

في حين تتقن الإلكترونات لغة “الفوتون” وكذلك “البوزونW” و “البوزونZ”.

القوة الكهرومغناطيسية هي التي تمسك بالإلكترونات داخل الذرة وتتواصل عبر الفوتونات.

القوة الشديدة تبقي نوى الذرات متماسكة. دون تلك القوة ستنفجر كل الذرات في الكون بشكلٍ مباشر وتتواصل عبر الغلوونات.

القوة الضعيفة تسبب الاضمحلال الإشعاعي (Radioactive Decay) وتنتشر عبر البوزون W و Z.

الجسيمات الأساسية:

كل مادة مصنوعة من صنفين من الجسيمات، تعرف بالكواركات واللبتونات.

الكواركات (الظاهرة باللون البنفسجي في الصورة أعلاه) تأتي في ست “صفات” تحمل أسماءً غريبة.

 

من الأسهل أن نضعها في أزواج لصنع ثلاثة أجيال. “العلوية” و”السفلية” تشكل الجيل الأول، “الساحرة” و”الغريبة” تشكل الجيل الثاني، “القمية” و”القعرية” تشكل الجيل الثالث.

الكواركات العلوية والسفلية هي الوحيدة المهمة في الحياة اليومية لأنَّها تشكل البروتونات والنيوترونات.

أما الأشكال الأخرى من الكواركات فتشكل المادة “الغريبة” فقط، وهي غير مستقرة لتكوين الذرات.

بإمكان العلماء خلق المادة الغريبة في مسرّعات الجسيمات، لكنها تستغرق أجزاء قليلة من الثانية لتضمحل.

اللبتونات:

هناك ستة لبتونات، أشهرها هو الإلكترون (الجيل الأول)، جسيم أساسي صغير يملك شحنة كهربائية سالبة.

الميوون (الجيل الثاني) والتاوو (الجيل الثالث) تعتبر نسخًا أضخم من الإلكترونات. وتمتلك كذلك شحنة سلبية بدورها، لكنها غير مستقرة لتظهر في المادة العادية.

ولكل من هذه الجسيمات نيوترينو مطابق، ليس له أي شحنة.

تستحق النيوترونات ذكرًا خاصًا لأنها ربما الأقل فهمًا من بين الجسيمات الموجودة في النموذج القياسي.

إنها سريعة للغاية وتتفاعل فقط من خلال القوة الضعيفة، ما يعني أنَّه بإمكانها الاندفاع من خلال الكوكب بسهولة تامة.

تتشكل هذه الجسيمات في التفاعلات الذريَّة، مثل تلك التي تغذي نواة الشمس.

الهدرونات: الجسيمات المركَّبة

الآن وقد اطلعنا على الجسيمات الرئيسية في الطبيعة، بإمكاننا البدء في جمعها معًا بطرقٍ مختلفة لصنع جسيمات أكبر.

أكثر الجسيمات المركبة أهمية هي الباريونات، والتي تتكون من ثلاثة كواركات. البروتونات والنيوترونات هي من أنوع الباريونات.

يقوم أكبر صادم للجسيمات الخاص بالمنظمة الأوروبية للبحوث النووية (CERN) بسحق البروتونات مع بعضها البعض. ولأن البروتونات هي نوع من أنواع الهدرونات، يسمى بمصادم الهدرونات الكبير (Large Hadron Collider) أو (LHC) اختصارًا.

المادة المضادة:

على حدّ علمنا، تملك كل الكواركات واللبتونات جسيمًا توأم من المادة المضادة.

وتعتبر المادة المضادة مشابهة للمادة العادية تمامًا، سوى أنها تمتلك شحنة معاكسة.

على سبيل المثال، يمتلك الإلكترون توأمًا من المادة المضادة له نفس الكتلة تمامًا لكن بشحنة موجبة بدل السالبة.

عندما يلتقي جسيم من المادة مع نظيره من المادة المضادة، يضمحل كل منهما لينتج عن ذلك اندفاع من الطاقة الخام.

المادة المضادة نادرة للغاية في الكون، لكنها في المقابل تلعب دورًا مهمًا في التكنولوجيا.

 

مثلًا، أجهزة التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET) تستخدم اضمحلال البوزيترونات لرؤية ما بداخل الجسم.

(البوزيترون هو توأم الإلكترون من المادة المضادة).

من بين أكبر ألغاز الفيزياء المحيرة اليوم هو لماذا يتكون الكون من المادة العادية بشكلٍ شبه مطلق.

العديد من علماء فيزياء الجسيمات يعملون جاهدين للإجابة عن هذا التساؤل.

الذرات: مركّبات المُركّبات

الخبز الذي قام ديموقريطس بشمّه متكون من الجيل الأول للجسيمات الرئيسية فقط.

تجتمع الكواركات العلوية والسفلية عبر القوة الشديدة لتشكيل البروتونات والنيوترونات، وتقوم القوة الشديدة بجمعها مع بعض أيضًا لتكوين نواة الذرة.

تدور الإلكترونات في مدارات حول نواة الذرة في ترتيب محدد في ميكانيكا الكم.

هيجز: جسيم الله

ربما قد تكون لاحظت الجسيم الموجود وحيدًا في أعلى يمين جدول الجسيمات، بوزون هيجز.

يعتبر الهيجز نوعًا فريدًا من الجسيمات يمنح للجسيمات الأساسية الأخرى كتلتها.

الفكرة أنه يوجد حقل في كل مكان في الفضاء.

وعندما تتحرك الجسيمات في الفضاء تميل إلى الاصطدام بهذا الحقل، وهذا التفاعل يقوم بإبطاء حركتها (الأمر مشابه لصعوبة الحركة في الماء مقارنة بالهواء).

هذا التفاعل هو الذي يمنح الجسيمات الأساسية كتلتها.

بعض الجسيمات مثل الفوتونات والغلوونات لا تتفاعل مع حقل هيجز، لذلك هي عديمة الكتلة.

وكما تتفاعل الفوتونات عبر القوة الكهرومغناطيسية، يتفاعل بوزون هيجز عبر حقل هيجز.

هذا وقد كان بوزون هيجز جسيمًا نظريًا حتى سنة 2013، حين أعلن (CERN) اكتشافه أخيرًا، ويبقى العلماء اليوم يبحثون في خصائصه.

ما الذي يفتقده النموذج القياسي؟

الجاذبية:

أكبر ثغرة في النموذج القياسي هي غياب الجاذبية في حساباتها.

 

لا مكان للقوة الرابعة للطبيعة في الصورة.

كما أن الجاذبية ضعيفة للغاية مقارنة بالقوى الأخرى (القوة الشديدة على سبيل المثال أقوى من الجاذبية بـ 100,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000 مرَّة).

بعض الفيزيائيين يعتقدون أن الجاذبية تعمل أيضًا عبر نوعٍ من الجسيمات، يطلق عليه نظريًا اسم “الجرافيتون”، لكن لا دليل على وجود هذا الجسيم حتى الآن.

كتلة النيوترينو:

إن حجم النيوترينو الصغير للغاية مقارنة بالجسيمات الأخرى يستدعي تفسيرًا.

من الممكن عدم حصول النيوترينو على كتلته من الهيجز بنفس الطريقة التي تحصل عليها الجسيمات الأخرى على كتلتها.

المادة المظلمة:

عند ملاحظة الكون، نرى أنه مكون في معظمه من المادة المظلمة، نوع جديد من المادة لا يتفاعل مع المادة العادية لذلك هو من الأشياء التي تنقص النموذج القياسي ربما.

التناظر الفائق:

ينظر الفيزيائيون اليوم إلى ملحقات النموذج القياسي لبحثِ تلك الألغاز المحيرة. التناظر الفائق هو من بين تلك الملحقات حيث لكل جسيم نظير توأم بكتلة أكبر.

بعض تلك الجسيمات تتفاعل بشكلٍ ضعيف للغاية مع المادة الطبيعية، لذلك قد تكون مرشحًا جيدًا للقب المادة المظلمة.


  • إعداد: وليد سايس
  • تدقيق: دانه أبو فرحة
  • تحرير: ياسمين عمر
  • المصدر