يمكن لتجاربك في مرحلة الطفولة تغيير حمضك النووي لبقية حياتك


تعتبر الطفولة مرحلة مُحددة في حياة أي شخص، قد نفهم من هذا أننا نقصد الاهتمامات فقط، ولكن بالنسبة للكثيرين يبدو أن التعرض لبعض الخبرات والتجارب في تلك المرحلة المبكرة يمكن أن يغير الجسم حتى على المستوى الجيني!

يمكن للباحثين الآن التنبؤ بدقة مما إذا كانت الجينات المسؤولة عن تنظيم الالتهاب (inflammation) تتغير بسبب أحداث كانت ذات أثر كبير على الفرد في مرحلة الطفولة المبكرة، وهذا يشير إلى أن إصابتنا ببعض الأمراض لاحقًا في حياتنا يمكن أن يكون نتيجة لأحداث تعرضنا لها في سنوات الطفولة.

قام فريق من العلماء من جامعة نورث وسترن في الولايات المتحدة بتحليل أكثر من مئة جينة مرتبطة بالالتهاب بحثًا عن أية أدلة لتغيرات جينية.

فالمتعارف عليه الآن أن تسلسل الحمض النووي (الجينوم) لدينا ثابت ككل ولا يمكن تغييره نظريًا، ولكننا علمنا مؤخرًا أن الجينات الفردية يمكن أن تستمر في التعديل والتطور من خلال عمليات تسمى التخلق (epigenetics).

وتعتبر عملية الميثيلة (methylation) أحد أكثر الأشكال وضوحًا لعملية التخلق، حيث أنها تتم بإضافة مجموعة ميثيل (CH3) إلى بنية الحمض النووي مما يؤدي إلى التأثير على الوظيفة أو الصفة المسؤولة عنها.

وقد أحدثت المیثیلیة -إلی جانب بعض التغیرات الجینیة الأخرى- ثورةً في کیفیة تفسیر مخططاتنا الجینیة. حيث أننا بعد أن كنا نعتبر أن تركيبنا الحيوي قدرًا ثابتًا لا مفر منه إلى الأبد، بتنا ندرك الآن أن حتى الظواهر البيئية البسيطة يمكن أن يكون لها تأثير تدريجي يؤدي إلى إسكات الجينات مستقبليًا.

ويظن العلماء أن عملية التخلق قد تطورت في البشر لتعدل جينوماتنا كاستجابة سريعة للتغيرات في البيئة المحيطة بنا.

يقول المؤلف الرئيسي للدراسة ثوم مكديد: (قد يكون لدينا جينات في أجسادنا قد تؤدي إلى بعض النتائج الصحية السلبية، ولكن إذا كانت تلك الجينات صامتة نتيجة إيقافها بسبب عمليات تخلقية، فإنه في هذه الحالة يمكن أن نعتبرها أمرًا جيدًا).

لا يزال من المبكر القول أننا نفهم كل التأثيرات الممكنة للتخلقات الجينية التي يمكن أن تؤثر على كل شيءٍ في حياتنا، بدءً من كيفية نومنا إلى درجة الثراء التي سنصل إليها في حياتنا.

شملت هذه الدراسة عينةً عددها حوالي 500 مشارك من الفلبين، كما اشتملت على مجموعة من البيانات التي يعود تاريخها إلى أوائل الثمانينات. كما تم استخدام دم تم جمعه في عام 2005 لتحليل 114 جينة مرتبطة بالعمليات المناعية التي تنظم الالتهاب.

وكانت النتيجة أن عملية الميثيلة لتسعة من هذه الجينات لها علاقة وثيقة بعدد من المتغيرات التي تعرض لها أفراد العينة في الطفولة، وتشمل هذه المتغيرات: الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة في مرحلة الطفولة، والغياب الطويل لأحد الوالدين في مرحلة الطفولة، بل وحتى إذا كان الفرد قد ولد في موسم الجفاف!

لا تعتبر هذه الدراسة أول دليلٍ على أن مرحلة الطفولة قد تحدث فيها تغيرات قد تترك أثرًا دائمًا على حمضنا النووي وهو سيؤثر على جهازنا المناعي مستقبلًا.

وبعبارة أخرى، من خلال تحديد بعض التجارب في مرحلة الطفولة، أمكن للباحثين التنبؤ مما إذا كان واحد أو أكثر من جينات الالتهاب التسعة تلك سليمًا أو تالفًا.

يمكن للالتهاب أن يكون سلاحًا ذو حدين، حيث أن اتساع الأوعية الدموية والتورم في المنطقة الملتهبة يسهل عمل الجهاز المناعي ويمكن أن يساعد في مكافحة العدوى وتسريع الشفاء، لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يسبب إزعاجًا وألمًا بل وضررًا إذا استمر لمدة طويلة.

وقد يساعد تنظيم عمل الجينات المسؤولة عن الالتهاب على تحقيق التوازن بين تلك الإيجابيات والسلبيات في ظروف معينة، ولكن بما أن الجينات ستكون صامتةً في هذه الحالة (أي لا تقوم بوظيفتها)، -ونادرًا ما تعود إلى العمل مرةً أخرى بعد توقفها- فإنها يمكن أن تفتح الباب أمام العديد من الأمراض في مرحلةٍ لاحقةٍ من الحياة.

يمكن لهذه الدراسة أن تفسر انتشار أمراض القلب والأوعية الدموية وبعض الأمراض الالتهابية في مجتمعات معينة دون غيرها. كما أنها تضاف إلى مجموعة متزايدة من الأدلة التي تركز على كيفية تأثر جهاز مناعتنا بالعديد من التغييرات المتنوعة التي قد تؤثر على كيفية تعامل أجسادنا مع الأمراض في المستقبل.

لدينا الآن أدلة أكثر من قبل تثبت أن ما حدث لنا في وقت مبكر من حياتنا يمكن أن يؤثر علينا للأبد، ولكننا لا نزال نحتاج إلى المزيد من الأبحاث حول الجينات التي أكدت عليها الدراسة سعيًا للكشف عن أي أدلة إضافية توضح كيفية تأثير البيئة على جيناتنا.


  • ترجمة: أحمد حسين إبراهيم
  • تدقيق بدر الفراك
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر