تمامًا كما بالإمكان أن يحدث في العالم الاعتيادي من تكوّن موجاتٍ كبيرةٍ دوّارة في البحر تتخلّلها تموّجات صغيرة، يُمكن أيضًا أن يتواجد مزيجٌ أو (تراكبٌ – Superposition) للموجات في العالم دون الذرّي.

تسمح نظرية شرودنجر لموجات الاحتمالية بوجود موجتين أو أكثر، كما في مثال الضوء المُشِع على لوحٍ زجاجيٍ غير كامل الشفافية، فستتوافق موجةٌ مع فوتونٍ مار خلال الزجاج، وستتوافق الأُخرى مع الفوتون المُرتَد، ولكن من المُمكن أيضًا أن يكون لكِلا الموجتين موجات مُتراكبة، وهذا يؤدي إلى احتمالية مرور الفوتون وانعكاسه، ومن ثم أن يوجد في كلا الطرفين للزجاج في نفس الوقت.

وفي الواقع، يؤدي ذلك إلى احتمالية وجود عددٍ غير محدود على الأرجح من الموجات المُتراكبة، وهذا يعني أنّ الجُسيمات المجهرية يُمكنها نظريًا أنّ تتواجد في عددٍ غير محدود من الأماكن في الوقت نفسه، وأن تتصرّف بعددٍ غير محدودٍ من الطُرُق، وأحد من الاحتمالات المُثيرة التي تعرضها هذه الفكرة، هي أنّه على سبيل المِثال، في مجال الحوسبة، يُمكن للحاسوب الكمّي أن يستفيد من قُدرة الذرة على التواجد في حالاتٍ متراكبةٍ؛ لإنتاج قوةٍ وسرعةٍ غير عادية في العمليات الحسابية.

ويؤدي تجسيد حديث لتجربة الشِق المزدوج لـ (توماس ينج)، باستخدام مصدرٍ ضوئيٍ خافِتٍ يبعَث فوتونًا واحدًا في وقت مُعين، إلى الدليل نفسه على (التداخل – Interference)، بالرغم من عدم وجود موجات مُماثلة لتتداخل مع بعضها البعض، والطريقة الوحيدة التي يُمكن من خلالها للفوتونات المُنفرِدة أن تتداخل في ذلك الحين، هي إن استطاع كل فوتون بطريقة ما، المرور عبر الشقّين في الوقت نفسه (عن طريق التراكب)، ويتداخل مع نفسه، ويُمكن إجراء التجربة بأكملها بواسطة الإلكترونات، والذرات، أو أي جُسيمات دون ذرية، بدلًا من الضوء، مُبرهِنًة أنّ كل الجُسيمات يظهر بها كلا الجانبين الموجي والجُسيمي، (هذا التداخل هو آلية العمل التي يجمع بها الحاسوب الكمّي الافتراضي حساباته المُتعدِّدة خالِصًا إلى إجابة واحدة).

تجربة الشّق المُزدوج بواسطة فوتونٍ مُنفرِدٍ

وفي عام 1978م، اقترح (جون ويلر) تغييرات على تجربة الشّق المُزدوج لتوماس ينج (والتحسينات اللاحقة التي أضافها عليها ريتشارد فاينمان)، التي يُطلق عليها في الأغلب تجربة (الاختيار المؤجّل)، إذ افترض أنّ عملية رصد الفوتون، حتى بعد مروره خلال الشّق المُزدوج، قد تكون كافيةً لتغيير الناتج عن التجربة وسلوك الفوتون، وبناءً على ذلك، إذا عرِف مُجري التجربة أي من الشقّين يعبر الفوتون من خلاله، سيتصرّف الفوتون كجُسيم، بدلًا من موجة، والسلوك التداخلي التابع بها، وتم إثبات تلك الفرضيّة غير البديهية نوعًا ما، أخيرًا من خلال تجربة عمليّة عام 2007م.

ويجب الإشارة إلى أنّه لا يُمكن أبدًا الكشف عن حالات التراكب في العالم الواقعي – كل ما يُمكننا رؤيته هو آثار وجودها-، بعد أن تتداخل موجات مُنفرِدة لحالة تراكب مع بعضها، ومن ثم لا يُمكننا إطلاقًا رصد ذرة في حالة غير مُحدَّدة لها، أو أن توجد في مكانين في الوقت نفسه، ويُمكننا فقط الكشف عن الآثار الناتِجة، أمّا الواقع المادي لا يتم تحديده إلى أن يتم القياس، ويحسِم الوضع إلى حالة واحدة أو أُخرى.

واحدة من مشاكل كشف وقياس حالات التراكب معروفة باسم (الانحلال – Decoherence)، فأي محاولة لقياس حالات التراكب الكمّي أو جمع معلومات عنها بالعالم الخارجي، (أو بالتأكيد أي نوع تفاعل بينها وبين البيئة المُحيطة بها، حتى مع مجرد فوتون مُنفرِد)، تجعلها تنحل، مُدمِّرة حالة التراكب بشكل ملحوظ ومُقلِّصة إياها إلى مكان أو حالة واحدة، وأيضًا مُدمِّرة قدرة حالاتها المُنفرِدة في التداخل مع بعضها البعض، ويؤدّي الانحلال حينها إلى انهيار وظيفة الموجة الكمّية واستقرار الجُسيم في حالته المُلاحَظة تِبعًا للفيزياء الكلاسيكية، وهو انتقال الجُسيم من السلوك الكمّي إلى السلوك الكلاسيكي (الاعتيادي).

والانحلال هو أيضًا السبب الرئيسي في أنّ نظرية الكمّ تنطبق عمليًا فقط على مُستوى العالم دون الذرّي، أمّا في عالم النطاق الواسع الذي نعيش فيه، فمُستحيل عزل أي شيء عن التفاعل مع البيئة المُحيطة به، خاصًة بوجود تريليونات لا حَصر لها من الفوتونات، مُرتدّة من كل جسم طول الوقت، حتى الجسم المُكوّن من 60 ذرّة فقط يتطلّب برودةً قارِسة لتحول دون كونه كلاسيكيًا (اعتياديًا) بدلًا من كمّي، فالتفاعل بين الأجسام الكميّة مع البيئة المُحيطة هو ما يُنتِج ما نعرفه بالأجسام الكلاسيكية، كالقِطط والطاولات، وهكذا، لا يُمكننا عمليًا الكشف عن نظامٍ كمّي بشكل مُباشر؛ ويُمكننا فقط الكشف عن تأثيره على البيئة المُحيطة به.

وفي عام 1935م، وضع عالِم الفيزياء النمساوي إيرفن شرودنجر، تجربته الفكريّة المشهورة أو المُفارقة المعروفة باسم (قطة شرودنجر)؛ لشرح مشكلة الانحلال عن طريق الرسوم، وتوضيح الغَرابة العامة في ميكانيكا الكم، فافترض مشهدًا لقِطّة في صندوق مُغلق، حيثُ كانت تعتمد حياة أو موت القطة على حالة جُسيم دون ذرّي مُعيّن، وحسب تفسير كوبنهاجن، القطة في نوع من اللايقين (الشّك)، مُمَثّلة بوظيفة موجيّة تحتوي على احتماليّة أنّ القطة ميتة، لكن أيضًا احتماليّة أنها حيّة، وتظل القِطّة حينها ميتة وحيّة إلى حين فتح الصندوق، والمثال على ذلك هو التراكب، ويُستَخدم ذلك دائمًا في شرح الطريقة التي تتحطّم بها ميكانيكا الكم، عند التعامل مع الأجسام الكبيرة.

وبالرغم من كون تفسير كوبنهاجن هو الرأي الأكثر شُهرة، إلا أنّه ليس التفسير الوحيد للعالم الكمّي، إذ افترض بعض من العُلماء، رجوعًا إلى الفيزيائي (هيو إيفرت) الثالث عام 1957م، وأيَّدَه بعد ذلك (برايس ديويت) وآخرون كُثُر، أنّ كل حالة مُحتَمَلة للتراكب توجد فعلًا في واقعٍ موازٍ مُنفصِل تمامًا، والتي هي كلها جزء من نظام كمّي يولِّد واقعًا مُتناميًا يستمر فيه الكون بالتفرُّع إلى عشرات الآلاف من الأكوان الموازية غير المُتَّصِلة ماديًا، لكن حقيقية بدرجة مُتساوية.

ويزعُم هذا الرأي تفسير العديد من الخصائص التي تبدو صعبة التفسير لنظرية الكم، فعلى سبيل المثال، تختبر الظاهرة المُثبَتة تجريبيًّا بواسطة مرور فوتون مُنفرَد عبر شِق، تداخلًا مُبهمًا، يُمكن شرحه في تفسير العوالم المُتعدِّدة بالتداخل بواسطة الفوتونات في أكوان موازية أُخرى، وبإمكانه أيضًا تقديم تفسيرات للمشاكل الأكثر حبكةً لنظرية الانفجار العظيم، على عكس تفسير كوبنهاجن (الذي يؤثِّر فيه الوعي على الواقع)، لا يحتاج تفسير العوالم المُتعدِّدة إلى مُراقبين لتشكيل الواقع، ومن ثم، فإنه من غير الضروري انهيار الوظيفة الموجية لتجسيد الكون، وكل واقع يُمكِن أن يوجد تصوّريًا، يتم إنشاؤه بشكل تلقائي، ومع ذلك، فإنّ الجانب السلبي من الأمر هو أنّ فرضية العوالم المُتعدِّدة بكونها مُبالَغ في احتمالية وجودها، تُعارض (مبدأ التقتير – Principle of Parsimony)، أو ما يُعرف باسم (شفرة أوكام – Occam’s Razor)، الذي يفرِض أن يتم بناء النظريات بواسطة أقل عدد مُمكن من المبادئ والافتراضات، وبالطبع إن كانت الأكوان الموازية مُستقِلّة ومُنفَصِلة عن عالمنا، فإنّها لا توجد، وبالتأكيد لن توجد إطلاقًا، أي طريقة لإثبات وجودها عمليًّا

رسمٌ توضيحيٌ للتفسير التبادلي لميكانيكا الكمّ

وفقًا للتفسير التبادلي في أي انتقال كمّي، مثل: انتشار موجة كهرومغناطيسية بين جسمين، تُعزِّز الموجة العائدة للجُسيم المُستقبِل من الموجة المُرسَلة للجُسيم المُنبَعِث طالما أنه توجد بين الجسمين، لكنّها تلغي الموجة العائدة الخاصة بالجُسيم المُنبَعِث؛ لهذا لا تظهر موجة عائدة قبل الانبعاث، والموجة المُرسَلة للجسيم المُستقبِل أيضًا، تلغي الموجة المُرسَلة للجُسيم المُنبَعِث؛ لهذا لا تظهر موجة مُرسَلة بعد أن قام الجُسيم المُستقبِل بتجميعها؛ ولذلك، تتفاعل الجُسيمات بالطريقة التي تفرِضها ميكانيكا الكم بما فيها (انهيار الحزمة الموجية)، وغيرها دون الحاجة إلى قياس بواسطة مُراقب خارجي، سامِحًة بوجود (عالم واقعي) هناك مُستَقِل عنّا.

لهذا التفسير عيوبه الخاصة، لكنّه جذب الانتباه مُنذ عرضه للمرة الأولى.

ويوجد أيضًا هناك العديد من التفسيرات المُنافِسة فيما يخُص ميكانيكا الكم، ومن بينها تفسير التواريخ المُتَّسِقة، وتفسير المجموعة، وميكانيكا الكم العلائقية، والميكانيكا العشوائية، ونظريات الانهيار المُجرَّد، وتفسير الأذهان المُتعدِّدة، والتفسير الشكلي، وتفسيرات أُخرى عديدة، فهي تظل منطقةً شديدة الفعالية، (ومُثيرة للجدل) للفيزياء الحديثة.


  • ترجمة: بسام محمد عبد الفتاح.
  • تدقيق: رجاء العطاونة.
  • تحرير : عبسى هزيم.
  • المصدر