يُظهر تسجيل الإشارات الكهربائية من داخل الليفة العصبية في الدماغ الحي، الكثيرَ من المعلومات حول الخلية العصبية ووظيفتها، وكيفية تنسيقها مع الخلايا الأخرى في الدماغ، ولكن القيام بهذا التسجيل صعبٌ للغاية، إذ لا يقوم به إلا القليل من مختبرات علم الأعصاب حول العالم.

ابتكر مهندسو جامعة (MIT) طريقةً لجعل هذه العملية آليةً، وبذلك تتاح بشكلٍ أوسع، مستخدمين خوارزميةً حاسوبية؛ لتحليل الصور المجهرية، التي ترشد ذراع الروبوت لمكان الخلية العصبية المستهدفة بدقةٍ، وقد تسمح هذه التقنية للعلماء بدراسة خليةٍ عصبيةٍ فرديةٍ، ودراسة تواصلها مع غيرها من الخلايا؛ لتأدية وظائف إدراكية، وإدراك المحسوسات وغيرها من وظائف الدماغ، وقد يستخدمها الباحثون لمعرفة كيفية تأثر الدوائر العصبية باضطرابات الدماغ.

يقول (إد بويدين- Ed Boyden) الأستاذ المساعد في الهندسة البيولوجية، وعلوم الدماغ، والإدراك بجامعة (MIT)، وعضو معمل الميديا بالجامعة، ومعهد ماكغفرن لأبحاث الدماغ، والباحث الأساسي في هذا البحث المنشور في مجلة :Neuron إن “معرفة كيفية تواصل الأعصاب مع بعضها البعض شيءٌ جوهريٌ لعلم الأعصاب الأساسي والإكلينيكي، ونأمل أن تتيح لك تلك التقنية النظر إلى ما يحدث بداخل الخلية العصبية، معبرًا عن ذلك عن طريق الحوسبة العصبية، أو ما يحدث بها أثناء المرض” – الكاتب الأساسي في الورقة، هو خريج جامعة (MIT) (جون سوك- Ho-Jun Suk).

الإرشاد الدقيق:

استخدم علماء الأعصاب منذ أكثر من 30 عامًا، تقنيةً تسمى بـ (تثبيت اللاصقة – patch clamping)، – تقنيةٌ لتسجيل النشاط العصبي أو الكهربائي بالخلايا العصبية-، تشمل هذه التقنية إحضار ماصةٍ دقيقةٍ جوفاء؛ لتتصل بغشاء الخلية العصبية؛ لفتح ثقبٍ في الغشاء، وتتطلب وجود طالبٍ خريجٍ، أو طالب دراساتٍ عليا؛ لمعرفة النتائج، كما أن إجراء هذه العملية على خلايا الثدييات الحية أكثر صعوبة.

وهناك نوعان من هذه التقنية:

النوع الأول يسمى بـ (التقنية العمياء):وهي لا تُرشد بواسطة الصور، مما يجعلها محدودةً إذ لا يستطيع الباحثون النظر لموقع الخلايا؛ بل يستطيعون فقط تسجيل ما يحدث بداخل أول خلية تتصل مع الماصة، والنوع الآخر: مدعومٌ بالصور، مما يتيح التوجيه إلى خلية محددة.

تمكن بويدين وزملاؤه من (MIT)، وجامعة جورجيا منذ خمس سنوات، بمشاركة الباحث كريغ فورست، من صنع خوارزمية حاسوبيةٍ؛ لإرشاد الماصة إلى خلية ما، بناءً على قياس خصيصة المقاومة الكهربائية، التي تعبر عن مدى الممانعة التي يتلقاها التيار الكهربائي عن انتقاله من نقطةٍ لأخرى، فإذا لم يوجد خلايا بالجوار، يتحرك التيار وتكون المقاومة طفيفة، وعندما يتصل طرف الماصة بالخلية، لا يمر التيار وترتفع المقاومة.

ويقول بويدين :

“بمجرد تعرف الماصة على الخلية تتوقف عن الحركة مؤقتًا، مما يمنع إتلاف غشاء الخلية، بعد ذلك تقوم مضخة الفراغ بإحكام غلق الغشاء مرة أخرى، ثم يسجل القطب الكهربائي النشاط الكهربائي داخل الخلية، وحقق الباحثون دقةً عاليةً باستخدام هذه التقنية، ولكنها لاتزال تفتقر إلى القدرة على استهداف خليةٍ محددةٍ، إذ يرغب علماء الأعصاب في معظم الأبحاث استهداف نوعٍ محددٍ من الخلايا لدراسته”.

ويضيف في هذا الإطار: “ربما تكون الخلية المستهدفة تلك التي وهنت بسبب التوحد، أو تغيرت في حالة الفصام، أو خلية نشطة عند تخزين الذكريات، أو أي خلية تريد دراستها، فإنك لا تحتاج لتطبيق التقنية على آلاف الخلية حتى تصل إلى الخلية المراد دراستها”.

ولتفعيل هذا النوع من التوجيه الدقيق، جعل الباحثون تلك التقنية آليةً (تُجرى بواسطة الروبوتات)، ويصعب إجراء تلك التقنية يدويًا؛ وبالرغم من تمكن العالم من رؤية الخلية المستهدفة والماصة خلال المجهر، لا يمكن إنكار حقيقة أن الخلايا المجاورة قد تتحرك عند دخول الماصة للدماغ، وبدمج العديد من تقنيات التصوير، تمكن الباحثون من ابتكار خوارزمية ترشد الماصة إلى ما يقرب من 25 ميكرون حول الخلية المستهدفة، وفي هذه النقطة يعتمد النظام على كل من التصوير، والممانعة الكهربائية، مما يجعله أكثر دقة في تحديد الاتصال بين الخلايا عما إذا اعتمد على أحدهما فقط.

يقول سوك:

“إن الأمر أشبه بمحاولة إصابة هدف متحرك داخل الدماغ، وهو النسيج الدقيق، وإن العملية أسهل بالنسبة للآلات، إذ يمكنها تعقب مكان الخلية، وبإمكانها تحريك عدسة المجهر، وتحريك الماصة آليا”.

وقد صوَر الباحثون الخلايا بواسطة مجهر ثنائي الفوتون، وهي تقنية شائعة تستخدم شعاع ليزر يسمى بـ (الليزر النابض pulsed laser)؛ لإرسال أشعة تحت الحمراء إلى الدماغ، لإضاءة الخلايا المعدلة هندسيًا، والتي تنتج بروتينًا فلوريًا (مستشع).

وباستخدام هذه المقاربة الآلية، نجح الباحثون في استهداف وتسجيل نشاط نوعين من الخلايا، هما: (الخلايا بين العصبية interneurons)، والتي تنقل الرسائل بين الأعصاب، وأعصاب أخرى تسمى بـ (الخلايا الهرمية pyramidal cells)، وقد حققوا معدل نجاحٍ يقارب الـ 20%، مقارنةً بأداء أمهر العلماء المؤدين لهذه العملية يدويًا.

حل لغز الدوائر العصبية:

تمهد تلك التقنية الطريق إلى دراساتٍ أعمق حول سلوك أعصابٍ محددةٍ، مما يلقي الضوء على حالتها عند أداء وظيفتها الطبيعية، وعند الإصابة بالأمراض كالزهايمر والفصام، وعلى سبيل المثال، الخلايا بين العصبية التي درسها الباحثون في الورقة العلمية المنشورة، لها ارتباطٌ بمرض الزهايمر، وفي دراسةٍ حديثةٍ على الفئران بقيادة (لي- هوي تساي Li-Huei Tsai) مدير معهد بيكور الخاص بدراسة التعلم والذاكرة التابع لجامعة (MIT)، أشارت الدراسة إلى أن إحداث تردداتٍ معينةٍ من الذبذبات الموجية في الخلايا بين العصبية في الدماغ بإمكانه إزالة كتل النشوي Amyloid في الدماغ، والتي توجد في مرضى الزهايمر.

يقول بويدين:

“سيكون من الرائع معرفة ما يجري داخل هذه الخلايا، هل ترسل الإشارات إلى خلايا محددة؟، وهل سيكون لذلك أثرًا في تطوير علاجات جديدة؟، إن الدماغ عبارةٌ عن دائرةٍ عصبية؛ ولكي نفهم كيف تعمل تلك الدائرة، يجب علينا أن نظهر كيفية عمل كل مكونٍ من تلك الدائرة أثناء عمله”.

تلك التقنية قد تساعد في إجراء الدراسات حول أسئلة جوهرية في علم الأعصاب، وعن كيفية تواصل الخلايا مع بعضها عند اتخاذ القرار، أو تخزين الذكريات.

وقد أبدى بيرناردو ساباتيني أستاذ بيولوجيا الأعصاب في مدرسة هارفارد للطب، اهتمامه بتبني هذه التقنية في معمله، إذ يقضي الطلاب الكثير من الوقت في تسجيل هذا النشاط الكهربائي للأعصاب النامية على أطباق المختبر، وفي ذلك يقول: “من السخيف أن يكون الطلاب الأذكياء هم من يبذلون الجهد في هذه المهام وإذا تمكنت الروبوتات من إجرائها، وسأكون سعيدًا إذا تمكنت الروبوتات من إجراء المزيد من التجارب مستقبلًا مما يفرغ الباحثون لمهمة تفسير النتائج”.


  • المترجم: محمد إيهاب.
  • المدقق: رجاء العطاونة.
  • تحرير : محمد حمد.

المصدر