تقول متعهدة الدفن هولي ويليامز: «قد يحتاج الأمر إلى القليل من القوة، لرفع ذراع جون ثم ثنيها بلطف عند الأصابع والكوع والمعصم، كلما كان الجسم أكثر نضارة كلما كان عملي أسهل»

تتحدث ويليامز بهدوء وبسلوك يناقض طبيعة عملها فهي تتعامل مع الجثث منذ طفولتها، وتقدرعدد الجثث التي عملت عليها بحوالي الألف جثة.

ثم تضيف ويليامز: «معظم الجثث التي نتعامل معها تعود لأشخاص توفوا في دور الرعاية، ولكن أحيانًا تكون الجثث لأشخاص ماتوا نتيجة الإصابة بطلق ناري أو لحادث سيارة، قد نتلقى مكالمة لاستلام جثة شخص ما توفي وحيدًا ولم يتم العثور عليه لأسابيع حيث تكون الجثة قد تحللت بالفعل، الأمر الذي يجعل عملي أكثر صعوبةً».

توفي جون قبل أربع ساعات من نقل جثته إلى مكان الدفن، وكانت صحته جيدة نسبيًا في معظم أيام حياته، وقد اعتاد العمل في حقول النفط في تكساس، وهي وظيفة تبقيه في حالة نشاط بدني مستمر.

أقلع جون عن التدخين منذ عدة عقود، ويشرب الكحول بشكل منتظم، وفي أحد صباحات يناير الباردة تعرّض لأزمة قلبية حادة ثم سقط أرضًا وتوفي على الفور عن عمر يناهز السبع وخمسين عامًا.

الآن جون ممدد على طاولة ويليامز المعدنية، وجسده ملفوف بورق الكتان الابيض، تكون الجثة باردة وقاسية عند لمسها، مع لون جلد أرجواني-رمادي  وهذا يشير إلى المراحل الأولى لتحلل الجثة.

الهضم الذاتي :

وبعيدًا عن كونها ميتة، فان الجثة المتعفنة تعج بالحياة ويرى عدد من العلماء أن الجثة المتعفنة هي حجر الأساس لنظام إيكولوجي واسع ومعقد يظهر بعد وقت قصير من الموت ويزدهر ويتطور كعوائد للتحلل.

يبدأ التحلل بعد عدة دقائق من الموت وتسمى بعملية التحلل الذاتي أو الهضم الذاتي.

عند توقف القلب عن النبض تحرم الخلايا من الأوكسجين وتزيد حموضتها عندما تبدأ المخلفات السامة للتفاعلات الكيميائية بالتراكم داخل تلك الخلايا.

تبدأ الأنزيمات بهضم الأغشية الخلوية ثم تتسرب المحتويات الخلوية عند تحللها.

تبدأ هذه العملية عادة في الكبد وهو غني بالأنزيمات وفي الدماغ الذي يحتوي على نسبة ماء عالية.

في نهاية المطاف كل الأنسجة والأعضاء الأخرى تتحلل بهذه الطريقة.

تبدأ خلايا الدم التالفة بالتسرب من الأوعية الدموية وبمساعدة الجاذبية تستقر هذه الخلايا في الشعيرات الدموية والأوردة الصغير مما يسبب تغيرًا في لون الجلد.

كما تبدأ درجة حراة الجسم بالهبوط حتى تتساوى مع درجة حرارة المحيط.

ثم تبدأ مرحلة تصلب الجثة والتي تبدأ من الجفون ثم الفك ثم عضلات الرقبة ثم الجذع والأطراف .

عندما يكون الإنسان على قيد الحياة، تتقلص الخلايا العضلية وتنبسط نتيجة لعمل اثنين من البروتينات الخيطية الخاصة (الأكتين والمايوسين) والتي تنزلق على بعضها البعض.

أما بعد الموت، تستنفذ الخلايا طاقتها وتبقى خيوط البروتين متجمدة في مكانها، وهذا ما يجعل العضلات صلبة ويعيق حركة المفاصل تمامًا.

خلال هذه المراحل المبكرة فإن النظام البيئي للجثة يتكون في الغالب من البكتيريا التي تعيش في وعلى سطح جسم الإنسان الحي.

فأجسامنا تستضيف أعدادًا كبيرةً من البكتيريا، فكل سطح أو زاوية معينة توفّر موطنًا خاصًا بتجمعات ميكروبية معينة.

توجد أكبر التجمعات البكتيرية في الأمعاء، حيث تعتبر موطن لتيريليونات من البكتيريا والتي تعود لمئات أو آلاف الأنواع.

معظم الأعضاء الداخلية تكون خالية من البكتيريا عندما نكون على قيد الحياة، إلا أنه بعد فترة وجيزة من الموت يتوقف الجهاز المناعي عن العمل وتنتشر البكتيريا في جميع أنحاء الجسم بحرية تامة وهو ما يبدأ عادة في الأمعاء عند نقطة التقاء الأمعاء الدقيقة مع الغليظة.

وإذا تُركت دون فحص، تقوم هذه البكتريا بهضم الأمعاء ثم الانسجة المحيطة من الداخل إلى  الخارج باستخدام العصارة الكيميائية التي تتسرب من الخلايا كمصدر للغذاء.

ثم تغزوا الشعيرات الدموية والغدد اللمفاوية، الجهاز الهضمي وتنتشر اولًا في الكبد ثم الطحال ومن ثم إلى القلب والدماغ.

وهكذا بعد وفاتنا تنتشر البكتيريا داخل الجسم بطريقة منهجية والوقت اللازم لتتسلل إلى كل عضو من الأعضاء يعطينا مؤشرهام لتحديد وقت الوفاة.

وتختلف درجة التحلل ليس فقط من شخص لآخر فحسب بل تختلف أيضًا بين أعضاء الجسم المختلفة.

الطحال ثم الأمعاء ثم المعدة ثم الرحم (للحوامل) تتحل في وقت مبكر أما الكلى والقلب والعظام فإنها تتحلل في وقت متأخر.

في عام 2014، حصلت جوان وزملاؤھا علی منحة تبلغ 200،000 دولار أمریکي من المؤسسة الوطنیة للعلوم الأمریکیة لإجراء المزید من التحقیقات حول الوقت اللازم لكل عضو ليتحلل فمحاولات معرفة العضو الأفضل لتقدير زمن الوفاة ماتزال غير واضحة.

التعفن:

بالنسبة لمعظمنا رؤية جثة متعفنة في أفضل الأحوال تكون مزعجة وفي أسوئها تكون مخيفة ومثيرة للإشمئزاز ولكن هذا الأمر طبيعي جدًا بالنسبة للعاملين في منشآت العلوم الجنائية .

وفي منشآت العلوم الجنائية التطبيقية في جنوب شرق تكساس وفي أواخر عام 2011 قام الباحثان Sibyl Bucheli  و Aaron Lynne  وزملائهما من جامعة Sam Houston State University بوضع جثتين جديدتين وتركهما للتحلل في ظروف طبيعية.

وعند بداية عملية التحلل الذاتي حيث تبدأ البكتريا العملية انطلاقًا من داخل الجهاز الهضمي إلى الخارج يبدأ التعفن.

وهذا هو الموت الجزيئي -تحلل الأنسجة الرخوة إلى سوائل وأملاح وغازات- يرتبط التعفن مع التحول الملحوظ في أنواع البكتيريا من الهوائية إلى البكتيريا اللاهوائية والتي لاتحتاج إلى الأوكسجين للنمو والتي تتغذى على أنسجة الجسم وتخمر السكريات فيها لإنتاج غازات مثل غاز الميثان وكبريتيد الهيدروجين والأمونيا والتي تتجمع داخل الجسم وتسبب انتفاخ البطن وأجزاء أخرى من الجسم أحيانًا.

وهذا يسبب المزيد من التغيير في لون الجلد وبينما تستمر خلايا الدم التالفة بالتسرب من الأوعية المتفككة، تحول البكتيريا اللاهوائية جزيئات الهيموغلوبين إلى سولفاهيموغلوبين.

إن وجود هذه الجزيئات في الدم المستقر يعطي الجلد مظهرًا رخاميًا ذو لون أسود مخضر وهو صفة مميزة للجسم أثناء عملية التحلل.

وغالبًا ما يكون الإنتفاخ كعلامة على التحول بين المراحل المبكرة واللاحقة من التحلل.

وبوصفه عالم حشرات يهتم Bucheli أساسًا بالحشرات التي تستعمر الجثث حيث تعتبر الجثة مُضيف لنوع متخصص من الحشرات (آكل الجيَف) حيث يمكنه رؤية دورة حياتها كاملة في الجثة المتعفنة أحيانًا.

الاستعمار:

عندما يصبح الجسم المتحلل معرض بشكل تام للمحيط يصبح مركزًا لتجمع الميكروبات والحشرات والقمام (أو مايعرف بآكل الجيف).

هنالك نوعان يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالتحلل هما الذباب الأزرق (أو مايعرف بذباب الجيف) وذباب اللحم ويرقاتهما.

تطلق الجثة المتحللة رائحة كريهة مكوّنة من خليط معقد من المواد الطيارة والتي تتغير بزيادة التحلل.

يكتشف الذباب الأزرق الرائحة باستخدام مستقبلات متخصصة ثم يضع البيوض في الفتحات والجروح المفتوحة للجثة.

تضع كل ذبابة حوالي 250 بيضة والتي تفقس خلال  24  ساعة والتي تعطي يرقات صغيرة الحجم والتي تتغذى على اللحم المتعفن ثم تنسلخ لتكون يرقات أكبر، والتي تتغذى لعدة ساعات قبل أن تنسلخ مرة أخرى.

ثم تتغذى لتصبح أكبر حجمًا وبعدها تترك الجثة لتتحول إلى ذبابة بالغة وتتكرر هذه الدورة عدة مرات إلى أن لايبقى هنالك مايمكن التغذي عليه.

في ظل الظروف القياسية فإن الجسم المتحلل يحتوي على أعداد كبيرة من اليرقات والتي تتغذى عليه، تؤدي هذه الكتلة من اليرقات إلى رفع درجة حرارة الجثة إلى حوالي 10 درجات مئوية ومن الجدير بالذكر أن هذه اليرقات تتحرك ذهابًا وإيابًا بين سطح الجثة ومركزها.

تقول( Bucheli ) إنه سيف ذو حدين فإذا اقتربت من الحافة (سطح الجثة) قد تكون معرضة للافتراس من قبل الطيور، وإذا بقيت في الداخل دائمًا ستكون عرضة للموت بدرجة الحرارة المرتفعة، لذلك فإنها تتحرك باستمرار.

يعتبر وجود الذباب مصدر جذب للحيوانات والحشرات مثل خنفساء الجلد والعث والنمل والدبابير والعناكب التي تتغذى على الذباب أو على يرقاته، بالإضافة إلى النسور وغيرها من الحيوانات الكبيرة آكلة اللحم والتي قد تهاجم الجثة.

في غياب آكلات الجيَف فإن اليرقات هي المسؤولة عن إزالة الأنسجة الرخوة وكما أشار كارل لينيوس عام 1767 :«يمكن لثلاث ذبابات استهلاك جثة حصان بسرعة استهلاك الأسد لها» مشيرًا إلى دورها في وضع البيوض والتي تكون يرقات، تتكاثر لاحقًا.

تغادر  اليرقات بأعداد كبيرة بعيدًا عن الجثة بعد الإنتهاء من التحليل، وتتبع مسارات موحدة، وبنشاط صارم لدرجة أن مسار حركتها يكون واضحًا على شكل أخاديد في التربة.

يعتمد التحلل على عوامل معينة كدرجة الحرارة والرطوبة ونوع التربة وملمسها.

تختلط الميكروبات الموجودة في التربة مع الجثة وتصبح جزءًا من النظام البيئي للجثة، ولذلك فإن الذباب الذي يهبط على الجثة لن يضع بيوضه فحسب بل وستنتقل البكتيريا من وإلى الذبابة، بالإضافة إلى ذلك فالأنسجة المتحللة ذات الملمس السائل والتي تتسرب من الجثة تسمح بالتبادل البكتيري بين الجثة والتربة .

فعند أخذ عينة من الجثة وفحصها اكتشف Bucheli  و Lynne أن مصدر البكتيريا هو الجلد والذباب وآكلات الجيَف والتربة.

تقول لين:«عند تطهير الجثة تبدأ بكتريا الأمعاء بالظهور وترى نسبة كبيرة منهم خارج الجسم».

ولذلك من المرجح ان يكون لكل جثة نمط ميكروبيولوجي خاص بها والذي قد يتغير مع الوقت ووفقًا للظروف الدقيقة في مكان الوفاة.

التطهير :

يقول دانيال ويسكوت، مدير مركز الأنثروبولوجيا الجنائية في جامعة ولاية تكساس في سان ماركوس: «نحن نراقب السائل الذي يخرج من الجثة المتحللة، فتسرب المواد العضوية من الجثة يغير التراكيب الكيمياوية للتربة تحتها ما يجعلهاغنيةً عضويًا.

وفي نهاية الأمر فإن العملية بأكملها –أي تحلل الجثة- تُكّون مايعرف بجزر التحلل وهي منطقة شديدة التركيز من التربة الغنية عضويًا، وبالإضافة لذلك فإن الجثة تعتبر عامل جذب للحشرات الميتة والمواد البرازية من الحيوانات الكبيرة.

وفقًا للتقديرات فإن متوسط نسبة الماء في الجسم هي 50-75 % وكل كيلوغرام من كتلة الجسم الجافة تطلق  حوالي 32 غم نيتروجين ، 10 غم فوسفور ، 4 غم بوتاسيوم ، 1 غم مغنيسيوم ، في التربة وهذا مايزيد من خصوبتها.

في البداية، هذا الأمر يقتل بعض النباتات المحيطة بها، ربما بسبب سُمّية النيتروجين أو بسبب المضادات الحيوية الموجودة في الجسم، والتي تفرزها يرقات الحشرات لأنها تتغذى على اللحم، في النهاية التحلل مفيد للنظام البيئي.

تكون الكتلة الحيوية الميكروبية ضمن ما يعرف بجزيرة التحلل أكبر منها في المناطق المجاورة. وكذلك الديدان، وخصوصًا الخيطية منها، والتي ترتبط بالتحلل وتسرّب المواد المغذية إلى التربة، والتي تجعل الحياة النباتية أكثر تنوعًا.

 الدفن:

إذا تركت جثة في طقس ذو حرارة جافة -كصيف تكساس مثلًا- فإن الجثة ستتحنط بدلًا من أن تتحلل بصور كاملة فسيفقد الجلد رطوبته بسرعة بحيث يبقى ملتصقًا بالعظم بعد انتهاء العملية.

إن سرعة التفاعلات الكيمياوية التي تحصل أثناء التحلل تتضاعف كلما زادت درجة الحرارة 10 درجات مئوية، لذلك فالجثة المتحللة ستصل إلى مراحل متقدمة بعد 16 يومًا إذا كان معدل درجة الحرارة اليومي هو 25 سيليزية.

فبعد هذه المدة معظم اللحم تمت إزالته -بالتحلل- وبالتالي تبدأ هجرة اليرقات بعيدًا عن الجثة.

وقد علم المصريون القدماء كيف تؤثر البيئة على التحلل.

فقبل بناء الأهرامات كان الموتى يُلفون بالكتان ثم يدفنون في الرمال، حيث تثبط الحرارة نشاط البكتيريا، في حين أن الدفن يمنع الحشرات من الوصول للجثة، وبذلك يتم المحافظة عليها بشكل جيد للغاية.

لاحقًا عندما بدأت عملية بناء المقابر -الأهرامات- وذلك من أجل توفير حياة أفضل لهم في الآخرة وهذا ما سيؤدي إلى عكس التأثير المقصود ففصل الجسم عن الرمال سيسرع من التحلل ولذلك عمدوا إلى التحنيط.

تنقل ويليامز جثة جون إلى طاولة التحضير، ثم تزيل ملابسه ثم تثبته على الطاولة وتتناول علبة تحتوي على سائل يسمى سائل الخلط أو التحنيط وهو خليط من الفورمالديهايد والميثانول والمذيبات الأخرى، يحافظ السائل على الجسم بصورة مؤقتة عن طريق ربط البروتيمات الخلوية بعضها مع بعض كما ويقتل البكتيريا ويمنعها من كسر البروتينات واستخدامها كمصدر للطاقة.

تقوم ويليامز بصب محتويات الزجاجة في آلة خاصة، ثم تمسح على جسده باسفنجة ثم تقوم بعمل شق فوق عظم الترقوة الأيسر، ثم تقوم بعدها برفع الشريان السباتي والوريد تحت الترقوي وتربطهما لغرض التثبيت، ثم تضع أنبوبة صغيرة في الشريان السباتي وملاقط صغيرة في الوريد لضمان بقاءه مفتوحًا، ثم يتم تشغيل الآلة والتي تضخ سائل التحنيط في الشريان السباتي.

وبدخول السائل إلى الجسم عبر الشريان السباتي يبدأ الدم بالخروج من الجسم ويتدفق على طول الطاولة ويصب في مجرى مخصص، وفي الوقت نفسه تحمل ويليامز إحدى أطرافه وتدلكها بلطف.

ثم تضيف: قد يستغرق الأمر حوالي الساعة لإزالة كل الدم واستبداله بسائل التحنيط، تبطئ الجلطات الدموية هذه العملية لذلك فالتدليك المستمر يكسر تلك التجلطات ويساعد على تدفق سائل التحنيط.

وبمجرد خروج كل الدم من الجسم واستبداله بسائل التحنيط يتم وضع شافطة في بطن جون حيث تمتص السوائل من التجويف البطني.

وفي النهاية تقوم بخياطة الشق ، ثم يمسح الجسم مرة ثانية وتحدد ملامح الوجه ثم يتم إلباسه الملابس مرة أخرى ليصبح جاهزًا للجنازة.

ومع ذلك فالتحلل يحدث لامحالة ، لكن متى؟

هذا يعتمد على كيفية استبدال الدم بسائل التحنيط، والنعش المستخدم وكيفية الدفن.

في نهاية الأمر الأجسام عبارة عن شكل من أشكال الطاقة، ووفقًا لقوانين الديناميكيا الحرارية لايمكن تخليق الطاقة أو تدميرها ولكن تتحول من حالة لأخرى، والتحلل هو دليل آخر يذكرنا أن كل ما في هذا الكون يجب أن يتبع هذه القوانين الأساسية.

من رماد إلى رماد ومن تراب إلى تراب هذه هي دورة حياة الإنسان.


  • ترجمة : بشار الجميلي
  • تدقيق: أسمى شعبان
  • تحرير: أحمد عزب

المصدر