في الواقع، ليس كل ما خفي عن أعيننا غير موجود، فهنالك الكثير من الأمور التي نحس بها عوضًا عن مشاهدتها.

وهذا الأمر ينطبق أيضًا على القوى الكونية الضئيلة جدًا في ميكانيكا الكم، كما ينطبق أيضًا على القوى التي تفوقها في الكِبَر حتى نصل إلى الجاذبية بين الأجسام الكبيرة جدًا مثل الكواكب والنجوم وحتى المجرات، فحتّى هذه تخضع لقوىً غير مرئية تظّل تجذبها تجاه بعضها البعض باستمرار.

أمرٌ محتوم أنها تتجاذب شيئًا فشيئًا، سينتيميترات تدريجية وسنين ضوئية، ومع تقدم دقّات عقارب الساعة الكونية تصبح المجرّات أقرب لبعضها البعض هي الأخرى.

عند اقترابها من بعضها أكثر، تبدأ المجرات بفعل ما يشبه العناق، وذلك عندما تصل النجوم والغازات داخلها لبعضها البعض عبر الوسط الهشّ الفاصل بينها.

عندها، يبدأ المشهد الملحمي بتصادم المجرتين، بتشكيلها رقصة ملحمية من اللهب والضوء الساطع، كلا المجرتين يتجاوز عرضها 100 ألف سنة ضوئية، تحتوي على مئات مليارات النجوم، تتصادم مكوناتها، تختلط، وتتّقد بمشهد أقرب ما يمكن تصويره للألعاب النارية.

ولكن، ما الذي يعقب هذا المشهد الأسطوري؟

مجرة محطمة، قاتمة، وميتة، مجرة لا يمكن لها أبدًا أن تشعّ النور الذي كان قبل هذه الكارثة.

إنها فعلاً رقصة عظيمة، قصة شبيهة بالأساطير التي حدثت عبر ملايين السنين، ولكنّ وقتنا لقرائتها لم يحن إلّا الآن.

المحاكاة الأولى

في الوقت الذي اكتشف فيه علماء الفلك وجود الأجرام السماوية المنفصلة عن مجرتنا، لاحظوا أن بعض هذه الأجرام هي أكثر فوضوية من الطبيعي، ولكنّ أحدًا لم يتوقع مباشرةً أن تقوم المجرّات بفعل أمورٍ مثيرة كالإندماج.

ولكن للأسف، فإن هذه العملية الفيزيائية الرائعة تستغرق آلاف ملايين السنين لتكتمل.

لذلك، فإن العقود القليلة التي أمضيناها في مشاهدة هذه الظاهرة، لا تكفي فعلاً لمشاهدة العملية المليئة بالدراما في مخططها الزمني الفعلي.

في الواقع، فإنه ولوقت طويل، لم يثق العلماء فيما إذا كانت المجرات تتصادم فعليًا أو أنها فقط تقوم بأفعال غريبة وعشوائية، وهذه ببساطة، الطريقة التي يعمل بها الكون.

التقنية التي لطالما كانت السبب في كشف الأسرار الكونية المشابهة هي المحاكاة، ولكن المحاكاة التي ساعدتنا في الكشف عن أسرار هذه العملية لم تكن رقمية، هي حتى لم تكن باستخدام أجهزة الحاسوب.

في عام 1941، أراد إريك هولمبرغ (Erik Holmberg) أن يعاين تصرّف العناقيد النجمية الملتحمة.

ولكنّه لم يستطع أن يصنع مجموعات نجمية في المختبر ثم أن يتركها تتجاذب وتتصادم خلال الملايين من السنين ببساطة.

عوضًا عن ذلك، وباستخدام القوة غير المحدودة للعقل البشري، فقد استعاض هولمبرغ عن المجرات بدزينتين من المصابيح الكهربائية.

بحيث أن كل مصباح يمثّل المليارات من النجوم، الغازات، الأغبرة، وغيرها من مكونات النسيج المجرّي الهائل.

بعدها، قام بتمثيل إضاءة كل مصباح على أنها مقدار قوة جذب مادة تلك المجرة، كلّما زاد حجم الجزء من المجرة، زادت اضاءة المصباح.

قام هولمبرغ بعدها بقياس مقدار الضوء الكلّي الواقع على كل مصباح من بقية المصابيح.

هذه الكمية تتناسب طرديًا مع قوة الجاذبية من بقية أجزاء المجرة.

والسبب في نجاح هذه الخدعة يكمن في أن الضوء والجاذبية كلاهما يخضع لنفس علاقة التربيع العكس: إذا تضاعفت المسافة بعيدًا عن المصدر، فإن شدة قوة الجاذبية، بالإضافة لشدة الضوء، كلاهما ينخفضان لربع القيمة الأصلية.

إستطاع هولمبرغ بعدها أن يعيد ترتيب كلّ مصباح على حدى شيئًا فشيئًا بالاعتماد على قياس قوة السحب الذي تقوم به الجاذبية من المصابيح المجاورة.

حكاية ذيول المدّ والجزر

بهذه الطريقة البسيطة، استطاع هولمبرغ أن يخطو عبر الدهور، وأن يشاهد الرقصة الملحمية أثناء حدوثها، في الوقت الذي تقومان به بالاختلاط والإلتحام بفعل الجاذبية.

كما أنه شاهد خاصية مثيرة للاهتمام: ذراع تمتد بين المجرتين أثناء اقترابهما من بعضهما البعض، بالتزامن مع تشكل ذراع تعاكسها بالاتجاه تظهر في الجانب الآخر لكل مجرة.

وفي حين كانت النتائج مثيرة للاهتمام، لم يمتلك هولمبرغ قوة الحاسوب الكافية ليبحث أكثر.

ولكن وبحلول السبعينات، وبقدوم الأخوين إيلار و جوري تومري (Alar and Juri Toomre)، قاما بإعادة النظر إلى الموضوع.

باستخدام حواسيب فعلية لمحاكاة عملية الإلتحام التي تقوم بها المجرات، اكتشف الأخوان النتيجة المرجوّة: عندما تتحد مجرتين، فإن التفاعلات الناتجة عن قوة الجاذبية بينهما تُظهر ذيول المدّ والجزر تتكون من الغازات والنجوم، تكون مواد على شكل حبال طويلة ورفيعة تقذف خارج العناق الضيّق للأذرع خلال عملية الإتحاد.

هذه المحاكاة للذيول تشبه الى حد كبير صوراً لأجسام مثيرة للاهتمام.

اتضحت الصورة تماماً : المجرّات تتجاذب فعلاً، تصطدم، وتختلط، وأثناء هذه العملية فإنها تتمزق أيضًا.

الألعاب النارية:

قوة الجاذبية كافية لتشويه أشكال المجرات عندما تلتقي وجهًا لوجه مع بعضها البعض.

ولكن المجرات نفسها هي نسبيًا عبارة عن فضاء فارغ.

أما النجوم فما هي إلّا نقاط ضئيلة مقارنةً بالحجم الهائل للفراغ الموجود داخل المجرة.

لذلك، فعندما تفكر بهذه الوحوش الهائلة وهي تصطدم، لا تتخيل تصادمًا عنيفًا للسيارات، عوضًا عن ذلك، عليك أن تتخيل أسرابًا من النحل تختلط.

ولكن، وحتى لو أن النجوم بشكل عام تدمر بعضها، فإن الألعاب النارية لا تزال ممكنة الحدوث.

تحتوي المجرات على أطنان خفيّة من الغازات والأغبرة والتي تقوم بالعوم في كل مكان، بدون أن تقوم بأي أذى، تعيش بشكل هائل على شكل بارع الجمال على هيئة سدم.

يمكن لهذه السُدم أن تستمر لعقود، ولكن في حال أنّها دُفِعَت بقوّة ما، من أمواج مصدرها مستعر أعظم قريب، أو كمثال أقرب، بفعل التفاعلات المعقدة الناتجة من قوة الجاذبية بين مجرتين تقتربان من بعضهما البعض، عندها، تبدأ السُدُم بالانهيار على أنفسها، متكاثفةً ومتشكلةً على هيئة تكوينات جديدة من النجوم.

عند اختلاط مجرتين، يرتفع معدل تكوين النجوم حتى 10 مرات أكثر من المعدل الطبيعي.

وفي مفاجأة كونية، فإن بلايين النجوم الجديدة تولد.

لمدة قصيرة، على مقاييس فلكية، فإن المجرة الناتجة عن الاختلاط ستكون ساطعةً أكثر من أي وقت آخر.

ولكن كل هذه المتعة، تأتي بشروط.

إذا تركت وحيدة، فإنه يمكن للمجرات أن تنتج نجومًا جديدة سنةً تلو الأخرى، مستهكلةً مخزونها الثمين من الغازات باستمرار.

ولكن الفوضى الناتجة من التصادم تجبرها على استنفاذ مخزونها الثمين بسرعة كبيرة.

البلايين من النجوم الجديدة تولد، وتكون معظمها بحجم هائل.

تولد لتموت بعد فترة قصيرة من الاختلاط.

ماذا عن الناتج النهائي من هذه التصادمات؟

الأنماط الحلزونية الهائلة تتمزق لأشلاء.

القرص المسطح البسيط يتشابك على شكل كتلة مشوهة.

مزيج نابض بالحياة من نجوم قديمة وجديدة تشتعل مع الجمرات الباهتة فقط، مبقيةً على أقزام حمراء، جميلة ولكن ميتة.

المجرات غير المنتظمة، الممتلئة بالنجوم الحمراء الباهتة، هي بقايا هذه التصادمات الكونية العظيمة.

هي في الواقع ليست إلّا الثمن الذي لا بدّ من دفعه لقاء لحظة كونية من المجد بين المجرّات.


  • ترجمة: أسماء الدويري
  • تدقيق: جدل القاسم
  • تحرير: طارق الشعر
  • المصدر