استخدم العلماء تقنيات وأساليب جديدة في التأريخ، أثبتوا من خلالها أن أصول النوع البشري الهوموسابيان (Homo sapiens) عمرها أكثر من 300.000 سنة على الأرض.
هذا الاكتشاف الشديد الأهمية بالنسبة لتاريخنا على الأرض، يدفعنا وبقوة لإعادة التفكير، ليس فقط في الكيفية التي تطوّر بها النوع البشري أقدم بمئة عام مما كان معلومًا، بل أيضًا بالكيفية التي مكنتهم من الانتشار في أنحاء القارات، قبل أن يباشروا باحتلال العالم أجمع.
اليوم، بالاتجاه مئة كيلومتر غرب مدينة مراكش في المغرب سنجد جبل ارهود الصخري، ولكن بالرجوع آلاف السنوات بالزمن سنجده كهفًا يمثل المسكن والوطن لأقربائنا من البشر القدامى! بقايا بشرية قليلة كُشف عنها في تلك المنطقة في ستينيات القرن الماضي، أظهرت خصائصًا جعلت العلماء يعتقدون أنها ترجع إلى مجموعات بشرية تطورت في هوامش إفريقيا، وقد اعتُقد طويلًا أنها المكان الأول لظهور النوع البشري.
في عام 2004 تم افتتاح مشروع حفريات جديد، كشف عن وجود آثار حجرية لبقايا حيوانية مثل الغزلان وحيوان النوّ (wildebeest)، بالإضافة إلى أجزاء من جمجمة بشرية، أسنان وعظام طويلة تخص خمسة أفراد على الأقل.
تم تشكيل فريق عالمي ضخم من العلماء تولّى مهمة دراسة هذه الآثار، حيث قاموا بتطبيق التكنولوجيا الحديثة على هذه الآثار وعلى بعض الأخرى القديمة أيضًا، ليقوموا بوضع صورة أوضح لتاريخ كل منها.

من طرق التأريخ الحديثة طريقة تدعى: التأريخ الحراري (thermoluminescence dating)، تقوم على مبدأ قياس الالكترونات العالقة في الجيوب الكريستالية للمادة إذا ما تمّ تسخينها بالنار أو بأشعة الشمس. طُبّقت هذه الطريقة على بعض الآثار الصوانية المكتشفة، وأثبت بذلك أنها أقدم بحوالي 100.000 سنة مما كان يعرف في السابق. فكان أول ظهور للإنسان الحديث الذي وجد في الشرق هو منذ 300.000 سنة.
ومن طرق التأريخ الحديثة أيضًا: (electron spin resonance dating)، والتي تستخدم عادة لتحديد عمر الأسنان المدفونة. على الرغم من موثوقية هذه الطريقة في التأريخ، إلا أن دقتها تعتمد بشكل كبير على معرفة نوع الإشعاع الذي تعرّضت له المواد المفحوصة.

في البداية، أرّخت هذه الطريقة عمر فك سفلي بشري في ستينيات القرن الماضي بحوالي 160.000 سنة، إلّا أن تحليلًا أكثر دقة للنشاط الإشعاعي لبعض الرواسب المحيطة قدّم نتيجة جديدة أكثر دقة تقدر عمرها ب 300.000 عام.
في ثمانينيات القرن الماضي كانت أقدم دلائل على بداية وجود الإنسان الحديث مؤرخة في منطقة إسرائيل بحوالي 100.000 سنة، وفي التسعينات أدلة أخرى أُرّخت ب 200.000 سنة في أثيوبيا. مع هذه النتائج الجديدة فإن تأريخ عمر الإنسان الحديث على الأرض يعود إلى 300.000 سنة.
التحليل الجيني لأبناء عمومتنا نحن البشر -شركاؤنا في السلف- مثل النياندرتال والدينيسوفان، أظهرت أننا انفصلنا عنهم كمجموعة بشرية مميزة منذ أكثر من 500.000 عام.

تكهّن العلماء بأن خصائصهم تخلط خصائص قديمة وأخرى حديثة في نفس الوقت، إلا أنه -حتى الآن- يعتبر الدليل الأحفوري ضئيلًا وقاصرًا للبتّ في الأمر.
تمت عمليات مسح وتحليل إحصائي ثلاثي الأبعاد لشكل الجمجمة، بالاعتماد على مئات القياسات ثلاثية الأبعاد، أظهرت أنه على الرغم من أن قحف الجمجمة أكثر استطالة وقدمًا، إلا أن الوجه والأسنان مشابهة جدًا لوجه وأسنان الإنسان الحديث لدرجة يصعب التمييز بينهما.
هذه الخصائص تقدم تركيبًا قريبًا جدًا من بداية تطوّر الدماغ الكروي الذي طوّره الإنسان قبل 130.000 سنة، مما يزودنا بأفضل صورة -حتى الآن- للإنسان قبل الحديث أو (pre-modern homo sapiens).

قد لا يكون خليط التقنيات والطرق المستخدمة في التأريخ دليلًا قاطعًا على عمر هذه الأحافير أو علاقتها بالإنسان الحديث، لكنه يزودنا بالطبع بدليل قوي على أن أقدم مجموعات بشرية من الإنسان الحديث بدأت بالانتشار لتصل شمال شرق إفريقيا، أبكر بكثير مما قُدّر من قبل.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هنالك بقايا للجمجمة البشرية بعمر قدر ب260.000 سنة في إفريقيا، وبقايا أخرى في إثيوبيا بعمر 195.000 سنة، فإننا سنجد أن تطور الهوموسابيان كان منتشرًا في كل أنحاء إفريقيا!
إذن، فقد استبدلنا معلوماتنا القديمة التي اعتدناها والتي تدّعي أن عمر الإنسان على الأرض 200.000 سنة وكان ظهوره في شرق إفريقيا، بمعلومات أدق تقول بأن عمره 300.000 سنة وفي كل أنحاء إفريقيا.

هذا الاكتشاف ما زال يترك الكثير من الأسئلة التي تنتظر دورها في الإجابة.
هل يا ترى كان هنالك تبادلًا ثقافيًا أو تكنولوجيًا بين هذه المجموعات؟ في الواقع، فإن التكنولوجيا المستخدمة من قبل سكان جبل ارهود البشريين القدامى، تبدو مشابهة لتلك المستخدمة في أماكن بعيدة مثل الشرق الأوسط، وفي أوروبا فيما بعد أيضًا.
مما يضع احتمالًا كبيرًا لوجود تبادل ثقافي وتكنولوجي بين هذه المجموعات، أي قد تكون هناك تكنولوجيا ساعدتهم في التنقل مثلًا!
العثور على المزيد من الأحافير، وجمع التواريخ الأكثر دقة سيساعدنا بلا شك في وضع الفصول الأولى الأكثر دقة لقصتنا على الأرض

إعداد: أنسام الغزاوي
تدقيق: دانة أبو فرحة

المصدر