تعتبر الرياضيات، بمثابة اللغة التي تفسر عالمنا المادي، يقول عالم الرياضيات والفيزيائي (يوجين فيغنر- Eugene Wigner): «تكمن الفعالية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية » فقد لا نلاحظ البرق الذي يسبق رعد الابتكارات التكنولوجية.

تخدم الرياضيات التقدم العلمي لكل المجالات.

كما أنها مثال عظيم على السعي البشري نحو المعرفة، فهي قادرة على توحيد العديد من المجالات المختلفة تمامًا.

ويشير عالم الرياضيات (مايكل عطية- Michael F. Atiyah) إلى هذه الإمتيازات في المجتمع الرياضي بلندن بعنوان -وحدة الرياضيات- حيث يقول: « ما يبهربني في الرياضيات هو التفاعل بين فروعها المختلفة، الروابط غير المتوقعة، المفاجآت، …»

يتحدث كل من علماء وهواة الرياضيات عن (جمال الرياضيات).

فعلى سبيل المثال، يؤكد الفيلسوف وعالم الرياضيات (برتراند راسل-Bertrand Russell) أن الرياضيات لا تمتلك الحقيقة فحسب، وإنما الجمال الأسمى.

يعتبر الجمال مفهومًا زلقًا يصعب حصره في وجه من أوجه الرياضيات أو غيرها من المجالات.

ومهما كان الجمال، يجد علماء الرياضيات قيمةً جماليةً في قوة التجريد التي تمتلكها الرياضيات وفي الصلات التي تجدها.

ولكن كيف يختلف أو يتشابه هذا الجمال الرياضي عن الجمال الذي ننسبه إلى عمل فني؟

يقول عالم الرياضيات (أرماند بوريل- Armand Borel) في مقالة نشرت في مجلة مخبر الرياضيات بعنوان (الرياضيات: فن وعلوم) : «تعتبر الرياضيات مزيجًا معقدًا يعرض الكثير من الصفات المشتركة مع الفن والعلوم التجريبية والنظرية، حيث يجب النظر إليها كممثل لهؤلاء الثلاث و ليس لواحد منها.»

وبالنسبة للأسئلة حول ارتباط الرياضيات بالفن والمجالات الأخرى، تبقى الأجوبة غامضة.

ويبدو أن الأسئلة من هذا النوع مقدر لها البقاء كجزء من الفولكلور الرياضي.

ثورة الدماغ

في أوائل عام 1909، قسم عالم التشريح، (كوربينيان برودمان- Korbinian Brodmann) قشرة الدماغ البشري إلى 47 منطقة وفقًا لتركيب وتنظيم الخلايا، وتسمى الآن بمناطق برودمان، ودهش الباحثون لوجود علاقة وثيقة نسبيًا بين بعض مناطق برودمان ووظائف الخلايا عند بدءهم لفهم وظائف الخلايا المختلفة في القشرة.

ولا يخفى التعقيد المذهل لأدمغتنا.

فيوجد على سبيل المثال، حوالي ثلاثة آلاف خلية عصبية مترابطة من 65 نوع للتحكم بجهازنا التنفسي فقط!

وإلى جانب الوظائف الفيزيائية التي يسيطر عليها الدماغ، يسعى الباحثون لفهم مواقع ما يعرف بالوظائف الفكرية.

نشرت مجلة (نيوروماج-NeuroImage) عام 2011 مقالًا يناقش نتائج دراسة تسعى لتحديد مناطق الدماغ المختصة بالأرقام والحسابات.

كما نشرت مجلة بلوس وان في العام نفسه دراسة تقدم أدلةً على نظرية تربط الشعور بالجمال بوظائف دماغية.

وقد عزت العديد من الدراسات (الشعور) بالجمال نتيجة تجربة بصرية أو سمعية أو أخلاقية إلى نشاط لوحظ في منطقة معينة تعرف بالدماغ العاطفي.

واستنتج الفريق المكّون من عالمي الأعصاب، Semir Zeki و John Paul Romaya ، والفيزيائي، Dionigi M. T. Benincasa، وعالم الرياضيات مايكل عطية أن الجمال الرياضي يثير نفس الأجزاء المذكورة في الدماغ العاطفي، وهي نفس المناطق التي وصفها برودمان.

و وضعت الدراسة التي نشرت في مجلة حدود علم الأعصاب البشري عام 2014 الجمال الرياضي، كما يراه علماء الرياضيات المدربين، ضمن مظاهر الجمال المذكورة سابقًا.

قدمت ستين صيغةً رياضيةً للمشاركين في الدراسة (علماء الرياضيات وغير الرياضيين) وطلب منهم ترتيبها وفقًا لثلاث فئات. قبيحة، محايدة وجميلة.

صنفت معادلة يولر بـ (جميلة) باستمرار من قبل علماء الرياضيات، كما صنفت هذه المعادلة بـ (الأقبح) من قبل العلماء، وهي صيغة ملتوية للغاية، تمثل بـ كمجموع لانهائي:

تنسب الصيغة إلى عالم الرياضيات (سرينيفاسا رامانوجان- Srinivasa Ramanujan).

ويؤكد معاونه (غودفري هاردي- Godfrey Hardy) على صحة الصيغة، لأنه لا يمكن لأحد اختلاق شيء معقد لهذه الدرجة.

ولسوء حظه، فإن نتائج الدراسة تشير إلى أن البساطة هي الخاصية (الجميلة) في الرياضيات.

الجمال والفهم

على الرغم من أن تصور الجمال الرياضي له نفس الخصائص العصبية لتصور الجمال من مصادر أخرى، فلا تزال هناك بعض الاختلافات.

لسنا بحاجة لفهم النوتات للعثور على الجمال في مقطوعة معينة من الموسيقى، كما يمكننا الشعور بجمال لوحة أو منحوتة دون التفكير بالجوانب التقنية لتكوينها.

ومع ذلك، يؤكّد مؤلفوا الدراسة على صعوبة فصل مفهوم الجمال الرياضي عن مفهوم الرياضيات الأساسية.

أجريت الدراسة على ستة عشر طالب دراسات عليا وحاملي شهادة الدكتوراه في الرياضيات، واثني عشر شخصًا غير رياضيين.

كان هناك ارتباط قوي بين الفهم والإدراك للجمال عند علماء الرياضيات، لكنها لم تكن علاقةً مثاليةً: إذ تم تصنيف بعض الصيغ على أنها قبيحة على الرغم من فهم الرياضيين لها بشكل جيد.

ومن المثير للدهشة، أن غير الرياضيين صنفوا بعضًا من الصيغ بـ (الجميلة) على الرغم من عدم فهمهم لها.

ويقترح المؤلفون أنهم ربما أحبوا شيئًا من الصفات الرسمية للمعادلات، – كتوزيعها المتناظر – وهذا شيء يجب أن يتم التحقيق عنه في دراسة مستقبلية.

وأخيرًا، فإن الأداة المستخدمة في هذه الدراسة والدراسات الأخرى هي شكل من أشكال التصوير بالرنين المغناطيسي، الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI
وقد حصل الكيميائي الأمريكي (بول لوتربر- Paul Lauterbur)والفيزيائي الإنجليزي (بيتر مانسفيلد- Peter Mansfield) على جائزة نوبل في الطب لعام 2003 لتطوير التصوير بالرنين المغناطيسي.

وعلى وجه الخصوص، كان لمانسفيلد الفضل في إدخال دراسة الشكلية الرياضية إلى استخدامات الجهاز.

نختم المقال بملاحظة لطيفة:

من الغريب أن تسمح لنا الفعالية غير المفهومة للرياضيات بفهم تعقيداتنا العقلية مثلما تساعدنا في فهم طبيعة الرياضيات نفسها.


  • ترجمة: رتاج إبراهيم
  • تدقيق: أسمى شعبان
  • تحرير: يمام اليوسف
  • المصدر