النجوم الملتهبة، والسدم بارعة الجمال وحتى الأقمار التي تعطي سماء الكواكب المختلفة سحرها، جميعها لا تمثل إلّا الجزء القليل من الجمال العظيم الذي يلف أعماق كوننا البعيد.

الجمال الذي يجمع أحيانًا بين المتضادات، تاركًا إياها تعزف سيمفونية من الحُسنِ الملحمي الذي ينتظر فقط من يكتشفه.

فم الحوت، نجم شاب ملتهب بالطبع كغيره من النجوم، ولكن الأمر الفريد المتعلق بهذا النجم يكمن في اكتشاف مجموعة من علماء الفلك لحلقةً متجمدةً من الغبار والصخور التي تلّفه مانحةً إياه منظرًا كونيًا غايةً في السحر.

استخدم الفريق تقنية تدعى (ALMA) والتي تعتمد في رصدها على الموجات الـ (ميليميترية) (1 على 10 مرفوع للقوة 3) ليلتقطو أول صورة كاملة للحلقة حول فم الحوت.

في الغالب، فإن هذه الحلقة المتشكلة بعناية من الصخور والغازات نشأت نتيجة تصادم المذنبات الخارجية مع بعضها البعض بالقرب من الحدود الخارجية للنظام الكوكبي الموجود على بعد 25 سنة ضوئية من الأرض – ربما تعلم الآن سبب وصفي للأمر بأنه ملحمي -.

في الواقع، هذه ليست أول مرة يلتقط فيها العلماء صورًا لفم الحوت بواسطة ALMA، مشاهدات سابقة تمت عام 2012 عندما كان التيليسكوب لا يزال تحت الإنشاء ما أنتج صورة لنصف القرص الصخري فقط.

ولكن هذه الصورة كانت على ما يبدو مجرد اختبار لقدرات ALMA البدائية، ولأنها كانت مبهمة فقد وفر غموضها إشارات محيّرة حول طبيعة هذا القرص والأصل المحتمل له.

أما المشاهدات الحديثة فقد وفّرت لنا رؤية كاملة ومشوقّة للحلقة الجميلة التي تلف النجم، ومقترحة ايضًا أن تكون المكونات الجليدية الموجودة في هذا القرص مشابهة لتلك الموجودة في مذنبات موجودة في نظامنا الشمسي.

يخبرنا عالم الفلك في مركز فيزياء الفلك في جامعة هارفرد الكائنة في كامبريدج في ولاية ماسيتشوتس الأمريكية، والمؤلف الرئيس لواحدة من ورقتين تمت الموافقة عليهما للنشر في Astrophysical Journal مجلة خاصة بالفيزياء الفلكية، واصفةً هذه المشاهدات [ميريديث ماكريجور Meredith MacGregor ] : «أعطتنا ALMA هذه الصورة الواضحة والمذهلة للحلقة الصخرية كاملة التكون، بإمكاننا أخيرًا أن نشاهد الشكل الكامل لهذا القرص، والذي يمكن أيضًا أن يخبرنا عن نظام الكواكب الذي كان مسؤولًا عن مظهره المميز هذا».

يعد فم الحوت نظامًا نجميًا قريبًا نسبيًا، كما يعد واحدًا من 20 نظامًا فقط استطعنا أن نصور الكواكب فيها بشكل مباشر.

أما عن عمره، فإن النظام كاملًا عمره تقريبًا 440 مليون سنة، أي تقريبًا عُشر عمر نظامنا الشمسي.

أما عن الذي تكشفه الصورة الحديثة من ALMA فهو منظر جميل يشترك فيه الجليد جنبًا إلى جنب مع الصخور لتكوين حلقة مبهرة بعرض 2 بليون كيلومتر، وتبتعد بمقدار 20 بيليون كيلومتر تقريبًا عن النجم الملتهب.

تمثل الأقراص الصخرية خصائص منتشرة حول النجوم الصغيرة، إضافة إلى أنها تمثل مرحلة مليئة بالحركة والفوضى في تاريخ النظام النجمي أو الشمسي.

ويعتقد العلماء أنها تتكون بسبب التصادمات التي تحدث بين المذنبات وغيرها من الأجرام السماوية في الطبقات العليا من النظام الشمسي المتكون حديثًا.

وبالتالي فإن الباقي بعد هذه التصادمات يقوم بامتصاص الضوء من النجم المركزي ثم يقوم بإعادة إشعاع هذه الطاقة بأطوال موجية ميليميترية، والتي يمكن التقاطها ودراستها عن طريق ALMA.

بواسطة البيانات المأخوذة من ALMA والنماذج بواسطة الكومبيوتر، تمكن الباحثون من الحساب الدقيق لمكان وعرض، والإحداثيات الهندسية للقرص.

بناء على هذه البيانات وتنويهات MacGregor فإن هذا حلقة كهذه تم إنتاجها عن طريق تأثير الجاذبية من الكواكب في النظام.

بالإضافة لكل هذا فإن مشاهدات ALMA هي الأولى التي استطاعت أن تظهر إشعاع apocenter وهو ظاهرة تم التنبؤ بها عام 2016 في ورقة من تأليف Margaret Pan، عالمة في معهد ماسيتشوستس التقني في كامبريدج، كما أنها من مؤلفي ورقة ALMA الاخيرة.

ككل الأجسام التي تدور بمدارات إهليليجية، فإن المادة الصخرية المكونة لقرص فم الحوت، تتحرك بصورة أبطئ عندما تكون أبعد عن النجم.

عندما تبدأ الصخور بالإبطاء فإنها تتراكم، مشكلةً تكوينات مركزةً اكثر في المناطق البعيدة عن النجم.

وهذه المناطق الكثيفة يمكن رؤيتها عبر ALMA على أنها مناطق بانبعاثات إشعاعية بطول موجي ميليمتري أكثر لمعانًا أو إشراقًا.

باستخدام نفس التقنيات، ولكن بالتركيز أكثر على الإشارات بنفس الطول الموجي المنبعثة من أجسام في الفضاء، استطاع العلماء رصد مخزون كبير من غاز أول أكسيد الكربون في نفس المكان الذي يتواجد فيه القرص الصخري.

يقول Luca Matrà الذي يعمل مع جامعة كامبريدج، الولايات المتحدة، والمؤلف لورقة الفريق الثانية: «مكنتنا هذه البيانات من معرفة أن الوفرة في كميات احادي وثنائي اكسيد الكربون حول فم الحوت هي تقريبًا ذاتها الموجودة في المذنبات الموجودة في نظامنا الشمسي».

كما يقول: ان هذا التشابه الكيميائي ربما يدل على تماثل في الظروف المؤدية لتكوين المذنبات بين الطبقات الخارجية لهذا النظام وبين نظامنا الشمسي.

Matrà وفريقه يعتقدون أن مصدر هذه الغازات ربما يكون من الإصطدامات المتتالية والمتصلة بين المذنبات، أو نتيجة لتصادم واحد ولكن عظيم بين مذنبات هائلة الحجم يصل حجمها لمئات المرات ضعف حجم المذنب Hale-Bopp.

وجود هذا القرص حول فم الحوت، إضافةً لتكوينه المثير للفضول والمألوف بالنسبة لنا، ربما يدلّ على أن هذا النظام يمر بنموذجه الخاص من مرحلة القصف الكثيف والمتأخر، وهي مرحلة حدثت قبل ما يقارب الـ 4 بلايين سنة، عندما كانت الأرض وغيرها من الكواكب تتعرض لاصطدامات دورية من المذنبات والأجرام الأخرى التي تبقت جرّاء تكوين نظامنا الشمسي.

كنتيجة، فإن الأهمية الكبيرة للتقنية التي تقدمها ALMA تكمن في كون جميع الصور الملتقطة مسبقًا لهذا القرص كانت باهتة وغير واضحة، أما تلك التي حصلنا عليها من ALMA فإنها الأكثر وضوحًا، مانحةً إيانا الأمل في صور أكثر وضوحًا للكواكب المؤثرة على حركة هذه الجسيمات في المستقبل.


  • ترجمة : أسماء الدويري
  • تدقيق : أسمى شعبان
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر