يتغذى العلم والتكنولوجيا على بعضهما البعض، دافعين بعضهما البعض إلى الأمام.

فالمعرفة العلمية تمكننا من بناء تكنولوجيا جديدة، والتي بدورها غالبًا ما تتيح لنا القيام بمراقبات وملاحظات جديدة حول العالم، والتي بدورها تتيح لنا بناء معرفة علمية أكثر وأوسع وأعمق، الأمر الذي يلهم بدوره التوصل إلى تكنولوجيا جديدة وهكذا.

على سبيل المثال، سنبدأ بفكرة علمية وحيدة ونتتبع تطبيقاتها وتأثيراتها على مجالات مختلفة من العلم والتكنولوجيا.

من المهابط الكهربائية إلى التصوير البلَّوري:

نبدأ حكايتنا من أواخر القرن التاسع عشر، مع القليل من التكنولوجيا التي لم يفهمها أحد كثيرًا في ذلك الحين لكنها مع ذلك كانت ستغيّر وجه العلم (أنبوب الأشعة المهبطية):

أنبوب زجاجي محكم الإغلاق ومفرغ من الهواء تقريبًا، وعند تمرير تيار كهربائي عبر هذا الأنبوب يبدو حينها غير فارغٍ.

أشعةٌ من الضوء الغريب تُطلَق عبر الإنبوب.

واكتشف فيزيائيون في عام 1897 أن هذه الأشعة المهبطية هي في الواقع إلكترونات.

وسيؤدي اكتشاف الإلكترونات بدوره إلى اكتشاف النواة الذرية في عام 1910.

من الناحية التكنولوجية، ستتطوّر أنابيب الأشعة المهبطية إلى ما سيعرف بالتلفاز، ولاحقًا ستتطوّر أيضًا إلى تقنيات عرض صورة مختلفة.

ليس ذلك فحسب، ففي عام 1895 لاحظ الفيزيائي الألماني فيلهم روينتغن أن أنبوب الأشعة المهبطية خاصته بدا وكأنه ينتج نوعًا آخر من الأشعة إضافة إلى الأشعة التي كانت موجودةً داخل الأنبوب، وكانت هذه الأشعة غير مرئية إلا أنها تسببت بتوهج شاشة في مختبره.

حاول أن يضع عائقًا في طريق هذه الأشعة، إلا أنها كانت تعبر الورق، النحاس، والألمنيوم، لكنها لم تتمكن من عبور الرصاص ولا العظام.

لاحظ روينتغن أن الأشعة تُظهِر ظلًّا باهت لعظام يده! فقد اكتشف روينتغن في هذه اللحظة الأشعة السينية (الأشعة X) والتي هي شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي.

وبكل تأكيد سيقود هذا الاكتشاف خلال وقت قصير إلى اختراع آلة الأشعة السينية التي ستتطور بدورها إلى جهاز التصوير الطبقي المحوري، حيث ستلعب كلتاهما دورًا أساسيًا في التشخيص الطبي.

بعدها سيتم استخدام آلة التصوير الطبقي المحوري في فروع علمية أخرى كالأبحاث العصبية، وعلم التنقيب والمستحاثات والأحفوريات.

بالإضافة إلى أن اكتشاف الأشعة السينية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تطوير مراصد (تلسكوبات) الأشعة السينية التي تستخدم للكشف عن الإشعاعات الصادرة عن الأجسام في الفضاء العميق، وستقوم هذه التلسكوبات بتسليط الضوء على الثقوب السوداء، والمستعرات العظمى، وأصل الكون.

تمهلوا، فلم ننتهي بعد…

ساهم اكتشاف الأشعة السينية بتوجيه ويليام وويليام براغ (فريق مكون من أب وابنه) في 1913 و1914 نحو فكرة أنه يمكن استخدام الأشعة السينية لمعرفة تراتيب الذرات ضمن بلورة ما (حيث تعمل هذه التقنية بشكل مشابه لمعرفة شكل وحجم مبنى ما اعتمادًا على طول الظل الذي يلقيه المبنى على الأرض، حيث يمكنك العمل بشكل عكسي من شكل الظل لتخمن أبعاد المبنى)، فعندما تمر الأشعة السينية في بلورةٍ ما، بعضها ينحني أو يتبعثر خارجًا (ينكسر) من قِبَل الذرات في البلورة.

يمكنك حينها أن تستقرئ بشكل عكسي من مواقع الأشعة السينية المنعكسة لمعرفة المواقع النسبية لذرات البلورة.

تسمى هذه التقنية “التصوير البلوري بالأشعة السينية” وقد أثرت بشكل كبير وأساسي على مسار العلم عن طريق توفير صور خاطفة للبنية الجزيئية.

ولربما يكون أبرز استخدامٍ للتصوير البلوري بالأشعة السينية هو من قِبَل روزاليند فرانكلن حيث ساعدت التقنية بالكشف عن بنية جزيء الحياة (الحمض النووي DNA).

ففي عام 1952، عملت فرانكلين، كما جيمس واتسون وفرانسيس كريك، على بنية الحمض النووي ولكن من زوايا مختلفة.

فكانت فرانكلين تنتج بعناءٍ صورًا متكسرة عن الحمض النووي بينما كان واتسون وكريك يجربان بنى مختلفة باستخدام نماذج ألعاب عبثية (مجسمات) خاصة بالجزيئات المدروسة.

في الواقع، كانت فرانكلن قد اقترحت في هذا الوقت شكلًا حلزونيًّا مزدوجًا للجزيء (الحمض النووي)، حين قام زميل لفرانكلن في عام 1953 بإطلاع واتسون على الصور الأكثر إيضاحًا.

وقد أقنعت هذه الصورة واتسون وكريك بأن بنية الحمض النووي هي حلزونية مزدوجة، كما دلتهم على ترتيب الذرات ضمن هذا الشكل الحلزوني.

وبعد عدة أسابيع، سيقوم الزوج المشهور (واتسون وكريك) باستخدام نموذجهم لحساب التفاصيل الكيميائية للحمض النووي بشكلٍ صحيح.

إن تأثير اكتشاف بنية الحمض النووي على البحث العلمي، الطب، الزراعة، وقضايا اجتماعية أخرى، هو كبير وواسع، واسعٌ لدرجةٍ يصعب علينا تحديد أي خط تأثير لنتتبعه.

على سبيل المثال، فلنختار خطًا واحدًا فقط، فإن فهم بنية الحمض النووي، بالإضافة لأمور أخرى، مكّن البيولوجيين في نهاية المطاف من تطوير طريقة سريعة وسهلة لنسخ كميات صغيرة للغاية من الحمض النووي (المعروفة بـPCR).

وبدورها فإن هذه التقنية التي تم تطويرها في ثمانينات القرن الماضي أتاحت تطوير تقنيات بصمة الحمض النووي والتي أصبحت الآن جزءً هامًّا من التحقيق الجنائي المعاصر.

كما هو واضح في المخطط أعلاه، فإن المعرفة العلمية (كاكتشاف الأشعة السينية مثلًا) والتكنولوجيات (كاختراع الـPCR) هي متداخلة بشكل عميق وتتغذى على بعضها البعض.

وفي هذه الحالة، فإن تتبع تأثير تكنولوجيا وحيدة كأنبوب الأشعة المهبطية على مدى قرون قد أخذنا في رحلة تمتد حتى الأحفوريات القديمة، المستعرات العظمى، اختراع التلفاز، النواة الذرية، وبصمة الحمض النووي.

لكن حتى هذه الشبكة المعقدة غير كاملة.

ففهم بنية الحمض النووي، على سبيل المثال، أدى إلى العديد من التقدمات إلى جانب اختراع الـPCR.

وبشكل مشابه فإن اختراع الماسح الطبقي المحوري اعتمد على معرفة علمية أكثر بكثير من مجرد فهم كيفية عمل آلات الأشعة السينية.

تشكل المعرفة العلمية والتكنولوجيا متاهة من الوصلات، حيث أن كل فكرة فيها متصلة بكل فكرة أخرى بمسار ملتف معقد.


  • إعداد: الياس سعود
  • تدقيق: بدر الفراك
  • تحرير: جورج موسى
  • المصدر