يستجيب العلم لاحتياجات ومصالح المجتمعات التي يتم فيها العلم.

وفي كثير من الأحيان يصبح الموضوع الذي يلبي حاجةً مجتمعيةً أو يحمل وعودًا لكسب انتباه المجتمع أكثر عرضةً للانتقاء كموضوع بحث، أكثر من مجرد موضوعٍ يتمثل في سؤالٍ غامض، مع احتمال ضئيل لإحداثه تأثيرًا أكبر.

على سبيل المثال، على مدى السنوات الخمس العشرة الماضية، استجاب العلم لوباء فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) بجهدٍ بحثيٍّ ضخم.

وقد تناول هذا البحث فيروس نقص المناعة البشرية على وجه الخصوص، ولكنه أيضًا زاد من فهمنا للعدوى الفيروسية بشكلٍ عام.

إن رغبة المجتمع للحد من انتشار فيروس نقص المناعة البشرية وتطوير لقاحات وعلاجات فعالة قد عمل على تركيز البحوث العلمية وحسّن من فهمنا لنظام المناعة، وكيفية تفاعله مع الفيروسات، والعقاقير، والعدوى الثانوية.

يتم العلم من قبل الناس، وهؤلاء الناس غالبًا ما يكونون سريعي الاستجابة لاحتياجات ومصالح العالم من حولهم، سواءً كان الأثر المطلوب إيثارًا أكثر، أو اقتصاديًّا بشكلٍ أكبر، أو مزيجًا من الاثنين، كما هو موضح في المثال التالي.

اللون البنفسجي الفاتح:

في عام 1856، وبينما كان يحاول الكيميائي الشاب ويليام بيركن (William Perkin) صنع نسخةٍ مركبةٍ من العقار المضاد للملاريا (الكينين)، لمح بريقًا أرجوانيًّا.

لقد عثر لتوِّه على صبغةٍ أنتجت لونًا جديدًا: البنفسجي الفاتح.

كان اللون ضربة نجاحٍ فورية، تزينت به النساء في جميع أنحاء أوروبا وأثرى مخترعَه.

جذب هذا الاهتمام الكيميائيين الآخرين أملًا في الحصول على تأثيرٍ مماثل، وهكذا انطلق مجال الكيمياء العضوية مدعومًا بجنون الموضة.

قد تبدو أهواء المجتمع أحيانًا تافهة.

في نهاية الأمر، قد تؤدي مثل هذه التغييرات الضئيلة الى تغييرٍ في مسار العلوم.

تشكيل العلماء:

كلنا نتأثر بالثقافات التي ننشأ عليها والمجتمعات التي نعيش فيها.

تٌشكل تلك الثقافات توقعاتنا، وقيمنا، ومعتقداتنا، وأهدافنا.

العلماء، أيضا، تٌشكلهم ثقافاتهم ومجتمعاتهم، والتي بدورها تؤثر على أعمالهم.

على سبيل المثال، عالم ما يمكنه أن يرفض المشاركة في أنواع معينة من البحوث لأنها تتعارض مع معتقداته أو قيمه، كما هو الحال بالنسبة لجوزيف روتبلات (Joseph Rotblat)، وهو فيزيائيٌّ بولنديُّ المولد، والذي أثرت قناعاته الشخصية بعمق على الأبحاث التي قام بها.

في عام 1939، أصبح جوزيف روتبلات واحدًا من أوائل العلماء الذين فهموا الآثار المترتبة من انشطار الذرات، وأن الطاقة الذي تطلقها يمكنها أن تٌستخدم لبدء سلسلةٍ من التفاعلات تبلغ ذروتها في انبعاث كمياتٍ هائلةٍ من الطاقة، وبعبارة أخرى، قنبلةٍ ذرية.

مع ذلك، وبدلًا من أن تزيد إمكانية حصول ذلك من ولعه، انتابه القلق من التكاليف الباهظة على حياة البشر التي يمكن أن تسببها تلك الأسلحة، وتجنب متابعة هذه الفكرة.

ثم، في العام نفسه، تمكن من الفرار من بولندا قبل بدء الغزو النازي، ولكنه في نهاية المطاف عندما فقد زوجته في الاحتلال الألماني، خشي أن تتمكن المانيا من تطوير قنبلةٍ نووية خاصة بها.

وانطلاقا من المنطق الذي يقول أن المنافسة بنفس السلاح قد يمكنها ردع هتلر من استخدام مثل هذه القنبلة، بدأ روتبلات بالعمل على هذه الفكرة بشكلٍ جدي وجاء الى الولايات المتحدة للمساعدة في مشروع مانهاتن لتطوير القنبلة الذرية.

ولكن بعد ذلك جاءت نقطة تحولٍ أخرى.

في عام 1944، علم روتبلات أن العلماء الألمان قد تخلوا عن أبحاثهم في الأسلحة النووية.

ولم يعد من المرجح أن القنبلة التي كان روتبلات يساعد في تطويرها ستستخدم لأغراض الردع فقط.

في عام 1944، أصبح روتبلات العالم الوحيد الذي يستقيل من مشروع مانهاتن، لأنه وجد ان احتمالات تطبيقها ستكون غير أخلاقية.

بعد الحرب العالمية الثانية، توجه روتبلات في الفيزياء نحو التطبيقات الطبية، وفي عام 1995 حصل على جائزة نوبل للسلام لجهوده من أجل منع انتشار الأسلحة النووية.

تجنب روتبلات مجالًا معينًا من الأبحاث بسبب وجهات نظره الأخلاقية.

اختار العلماء الآخرون الموضوعات البحثية بناءً على قيمهم أو التزاماتهم السياسية.

على سبيل المثال، كان عالم جامعة هارفارد، ريتشارد ليفين (Richard Levins) من المؤيدين المتحمسين للاشتراكية بعد أن قضى فترةً في العمل في المزارع، ومنظمًا للقوى العاملة في بورتوريكو.

عاد ليفين إلى الولايات المتحدة لدراسة علم الحيوان، ولكنه لم يركز اهتمامه في نطاقٍ صغير فحسب، مثل سلوك الكائن الحي أو مايتعلق بفصيلةٍ واحدة.

بل استثمر نفسه في علم الأحياء السكانية والتفاعلات على مستوى المجتمع المحلي والقضايا ذات الآثار المترتبة التي يهتم بها مثل التنمية الاقتصادية، والزراعة، والصحة العامة.

لم تغير وجهات نظره السياسية من نتائج دراساته العلمية، لكنها أثرت بعمقٍ على الموضوعات التي اختارها في المقام الأول.

وبطبيعة الحال، قد تؤثر التحيزات الاجتماعية لكل عالمٍ على مسار العلم من نواح كثيرة، كما يتضح من المثال التالي.

العثور على الإلهام في التفاصيل:

في وقتٍ مبكرٍ من العام 1900، لم يتوقع المجتمع الأمريكي من النساء الحصول على وظائف، ناهيك عن إجراء دراساتٍ علمية.

وبالتالي، فان كثيرًا من النساء اللواتي اخترن متابعة العلم نزلن إلى مهام روتينية أكثر مللا.

كان هذا هو الحال عندما ذهبت هنريتا ليفيت (Henrietta Leavitt) للعمل لدى إدوارد بيكرينغ (Edward Pickering) في مرصد كلية هارفارد.

وكانت تٌوكل إليها مهمة شاقة تتمثل في فهرسة ومقارنة الآفا من صور النجوم، والتي كانت حينها عبارةً عن مجرد بقعٍ من الضوء.

في الواقع، وفي ذلك الوقت، كانت النساء تٌفضَّل لمثل هذه المهام بسبب طبيعتهن التي تميل الى الصبر.

ومع ذلك، حتى في هذا العمل الشاق، وجدت ليفيت إلهامًا في عملها وأنماطًا مذهلةً من النجوم.

نجومٌ يتغير سطوعها، دُعيت (النجوم المتغيرة (، وأن طول الفترة الزمنية بين نقاط البريق والخفوت مرتبطةٌ ببريقها العام، فالنجوم ذات الدورات البطيئة لها لمعانٌ أكثر.

كان لاكتشافها آثارًا بعيدة المدى سمحت لعلماء الفلك بقياس حجم مجرتنا فيما بعد وبينت أن الكون آخذٌ في التوسع.

لكن بيكرينغ لم يسمح لليفيت بمتابعة هذا الاكتشاف.

بدلًا من ذلك، تم إعادتها لتقوم بقياساتها.

الوظيفة التي تعتبر مناسبةً للمرأة في ذلك الوقت، وتُركت دراسة النجوم المتغيرة لعلماء آخرين لأخذها فيما بعد.

فلو كانت نظرة المجتمع للمرأة أكثر انفتاحًا، لكان هذا الفصل من تاريخ علم الفلك قد تم لعبه بشكلٍ مختلف تمامًا!

تلخيص موضوع العلم والمجتمع

في هذا القسم، رأينا أن المجتمع يٌشكل مسار العلم بطرقٍ مختلفة عديدة.

فهو يساعد المجتمع على تحديد الكيفية التي يتم فيها توزيع الموارد لتمويل العمل العلمي، ويقوم بتشجيع بعض أنواع البحوث وإرجاء اخرى.

وبالمثل، يتأثر العلماء مباشرةً بمصالح واحتياجات المجتمع، وغالبًا ما يوجهون أبحاثهم نحو الموضوعات التي تخدم المجتمع.

وعلى نحوٍ أساسي، يٌشكل المجتمع توقعات العلماء، وقيمهم، ومعتقداتهم وأهدافهم، كلها تمثل عاملًا يدفعهم في اختياراتهم نحو متابعة تساؤلاتهم والتحقيق فيها.

المشاركة في العلم:

حتى لو لم تقضي أيامك في عمل تسلسل الحمض النووي، أو إجراء التجارب في مسرِّع الجسيمات، أو تحليل مكونات الصخور، فلا يزال بإمكانك التأثير على مسار العلم من خلال أفعالك اليومية.

كيف ذلك؟ فيما يلي بعض الاقتراحات لتقوم بمزيد من المشاركة في مجال البحث العلمي:

  • التغيير في الكيفية التي يتم فيها توزيع الأموال المخصصة للبحث من قبل كالات التمويل. على سبيل المثال، إذا أردت تشجيع البحث في مصادر الطاقة البديلة، يمكنك أن تكتب لعضو الكونغرس في دائرتك لتٌعلمه عن ماهية الأبحاث التي ترغب أن يمولها صندوق الوكالات الحكومية.
  • دعم البحوث. على سبيل المثال، إذا أردت للعلم أن يجد علاجًا لمرض السكري الذي يصيب الأحداث، يمكنك دعم المؤسسة التي تشجع الأبحاث حول هذا المرض.
  • المساعدة في جمع البيانات وتحليلها. تسعى بعض مشاريع البحوث العلمية للبحث عن مساعدتك كمتطوع. على سبيل المثال، خلال فترة توقفك عن استخدام الكمبيوتر المنزلي الخاص بك، يمكنك أن توفر قدرته الحاسوبية لكيميائيي جامعة ستانفورد وذلك للمساعدة في إجراء العمليات الحسابية حول أشكال البروتين. أو يمكنك مساعدة علماء الفلك من خلال جمع الملاحظات لفضاء النجوم المتغيرة.

لمزيد من المعلومات حول المشاركة في مجال البحث العلمي من خلال العمل التطوعي، ابحث عن منظمات مثل (DistributedComputing.info) و (Citizen Science).