اكتشف الباحثون كيفيّةَ قدرةِ جزيئاتٍ معيّنةٍ في الجسم على التسبُّبِ بحدوث أمراض المناعة الذاتيّة، وقد عرضوا الدليلَ الأوَّلَ حول الآليّةِ الحقيقيّةِ لحدوثِها.

الأمراضُ المناعيّة الذاتيّة هي مشكلةٌ تصيبُ أكثرَ من 50 مليون أمريكيٍّ، وبالرغم من أنّنا قد بدأنا نفهمُ بشكلٍ أفضلَ كيفيَّةَ تخفيفِ الأعراض، إلّا أننّا ما زلنا لا نفهمُ جوهرَ هذه الأمراض.

ويقول «Richard Kitching» وهو أحدُ هؤلاء الباحثين من جامعة «Monash» في أستراليا: «عرفنا أنّ هنالك خلايا تائيّةً-T-cells تجعلنا سريعي التأثُّرِ بالأمراض المناعيّة الذاتيّة، وأخرى تحمينا منها، ومعرفتُنا كيفيَّةَ حدوث هذه الأمراض تفتحُ لنا حقلًا لعلاجاتٍ جديدةٍ وموجَّهةٍ لأمراضَ محدّدة».

وجد البحث تفاعلًا هامًّا بين اثنتين من المُورثِّات-genes، وهو يساعدُ الخلايا التائيّةَ على نقل الإشارات الدفاعيّةِ الصحيحةِ ممّا يمنعها من مهاجمةِ الجسم.

لكنَّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَه هو: «هل تُعتبَر المناعةُ الذاتيّةُ اضطرابًا بحدِّ ذاتها»؟

يكون جهازُنا المناعيُّ عادةً ماهرًا جدًا في مهاجمة الأجسامِ الغريبة التي تغزو جسمَنا، كالفيروسات والجراثيم والأحياء الدقيقة الأخرى التي ليس من المُفترَض أن تتواجدَ في الجسم ولكن، في الاضطرابات المناعيّة الذاتيّة، يبدأ جهازُك المناعيُّ بمعاملةِ جسمِك على أنّه «غريبٌ» أيضًا.

ففي النمط الأول من السكّريّ، يدمُّرُ جهازُك المناعيُّ الخلايا المنتجةَ للأنسولين في البنكرياس، وفي التهاب المفاصل الرثيانيّ تهاجمُ الخلايا المناعيّةُ مفاصلَ جسمك.

كما تحرّى الباحثون عن متلازمةِ غود باستشر- Goodpastur syndromeفي الفئران، وهي حالةٌ نادرةٌ سببها مهاجمةُ الجهازِ المناعيِّ للغشاءِ القاعديّ للرِّئة والكلية.

وقد أظهرتْ دراساتٌ قديمةٌ أنَّ هناك بروتيناتٍ أو جزيئاتٍ معيّنةً في الجسم تجعلُك أقلَّ أو أكثرَ عرضةً للإصابة بمرضٍ مناعيّ ذاتيّ، وذلك بحسبِ كلِّ جزيء.

نظامُ الهلا-HLA أي Human Leukocyte Antigen»» (وهو المستضدُّ البشري المتواجدُ على سطح الكريّات البيضاء) هو عبارةٌ عن بروتيناتٍ تساعدُ الجهازَ المناعيّ وتُرمِّزها سلسلةٌ من الجينات، تتواجد بعضٌ من جزيئات الهلا على سطح الخلايا التائيّة، وتُظهر هذه الجزيئات أجزاءً صغيرةً من الجسمِ الغريبِ الغازي على سطحِها حتّى تراه خلايا مناعيّةٌ أخرى وتساعدَ على تدميره.

صرَّحَ الباحثُ القديمُ في جامعة «Monash» المدعو «Jamie Rossjohn» بأنَّ بعضَ الجزيئات المناعيّة – المسمّاة بجزيئات الهلا-HLA – مرتبطةٌ بخطرٍ وراثيٍّ متزايدٍ للإصابة بالأمراض المناعيّة الذاتيّة، بينما جزيئات الهلا الأخرى بإمكانها الحمايةُ من تلك الأمراض.

على سبيل المثال، تبيّن أنَّ بعضَ ألائل المُورِّثات الخاصّةِ بالهلا والتي تُدعى «HLA DR15» تزيدُ خطرَ الإصابة متلازمة غود باستشر- Goodpastur syndromeوالتصلُّبِ العديد- Multiple Sclerosis وحالاتٍ مناعيّةٍ ذاتيّةٍ أخرى.

وارتبط حدوثُ أمراضُ المناعة الذاتيّة بجزيءٍ آخرَ أيضًا اسمُه «HLA DR1».

ما لا يعرفُه الباحثون حتّى الآنَ هو الآليةُ التي تعملُ بها تلك الجزيئات، ولماذا تسببُّ أمراضَ المناعةِ الذاتيّة.

أخذَ الباحثون فئرانًا تمَّ تعديلُ نسلِها بحيث تعبِّرُ عن إحدى المورِّثتين (الجينين) «DR1» أو «DR15»، واكتشفوا أنّ الفئران التي تحمل مورّثة «DR15» قد تطوَّرت لديها متلازمة غود باستشر، أمّا الفئران التي تحمل المورثة «DR1» أو كلتا المورثتين؛ فلم تتطوّرْ لديها تلك المتلازمة.

يقول «Kitching»: «في مرض غود باستشر، عندما يتواجد الجزيء «DR15» فإنّه ينتقي ويدرِّبُ الخلايا التائيّةَ-T-cells على مهاجمة الجسم، وإذا كانت هذه الخلايا المدمِّرة لوحدها في الجسم فبإمكانها مهاجمةُ أنسجةِ الجسم، والنتيجةُ هي اعتلالُ المرضى بشكلٍ أكبرَ».

ويُكمل: «في حال كان الناسُ يملكون الجزيءَ «DR1» الحاميَ أيضًا؛ فإنَّ هذه الخلايا التائية-T-cells تُحجز ضمن تجويفٍ و…»

لنكنْ واضحين؛ إنَّ هذا البحث قد أُجريَ على نماذجَ من الفئران فقط، لكنَّه خطوةٌ مُهمّةٌ للأمام في سبيل فهم كيف ولماذا يبدأُ جهازُنا المناعيّ برؤيةِ جسمِنا على أنَّه تهديد، ويأملُ الباحثون أنَّ تؤدِّيَ النتائج إلى حصائلَ ملموسةٍ عند المرضى.

يُتابعُ «Kitching»: «هذه الخلايا المناعيّةُ المميّزةُ التي تحمي الجسمَ هي خلايا نوعيَّةٌ للغاية، كما أنّها فائقة القوّة؛ لذلك إن كان بالإمكان دفعُها لتتطوَّر داخل الجسم أو تكثيرُ خلايا الناس المرضى خارجَ الجسم ثمَّ حقنُها مجددًا داخلَ أجسامهم، فقد نحصلُ على علاجاتٍ أفضلَ وأكثرَ استهدافًا للأمراض المناعيّة الذاتيّة».


ترجمة: طارق برهوم
تدقيق: اسماعيل اليازجي
تحرير: يمام اليوسف

المصدر