ما الذي تفعله المساحات الخضراء بنا، وكيف تؤثر على مزاجنا؟


عندما غيرت الطبيبة النفسية رايتشيل كابلان، مكتبها في جامعة ميشيغان في آن أربور، قالت أنها فوجئت قليلًا بشعورها الجيد في المكان الجديد. يطل المكتب الذي قضت فيه السنوات الـ17 الماضية، على حائط قاحل في فناء تمت إزالة الشجرة الوحيدة فيه. بينما يطل مكتبها الجديد على أعالي شجر.

بينما تعمل كابلان على جهاز الكمبيوتر الخاص بها أو تدردش على الهاتف، يمكنها الآن أن تحدق بالأشجار وتشاهد الطيور والسناجب وهي تقفز من فرعٍ إلى فرع. إن تأثير هذه المناظر عليها يؤكد ما وجدته هي وزوجها ستيفن كابلان، الحائز على شهادة دكتوراه، على مدى عقود من الأبحاث: المساحات الخضراء مفيدة للصحة.

وتقول كابلان، أستاذة علم النفس وعلم البيئة والسلوك في كلية الموارد الطبيعية والبيئة: “كان الوضع في مكتبي السابق أصعب علي مما كنت أتصور”.

وتضيف:”يجب أن أعترف أنني كنت أكثر اقتناعًا بعملي الخاص بعد أن غيرت المكتب. أدركت أن كل نتائجنا كانت صحيحة”.

إن كل من راتشيل وستيفن في طليعة الأبحاث حول ما يسمونه “البيئات الإصلاحية”. يقومون مع أخصائيي النفس الآخرين باستكشاف تأثير الطبيعة على الأداء العقلي للناس، وعلى علاقاتهم الاجتماعية وحتى الجسدية. يضع آخرون تلك البحوث في نطاق الممارسة من خلال العمل مع مصممي الديكور الداخلي والمهندسين المعماريين ومخططي المدن، لإنشاء المباني والمدن الصحية نفسيًا.

استعادة صفاء الذهن

لم يكن لدى كل من رايتشيل وستيفن في البداية اهتمامات مهنية في الطبيعة. ففي السبعينات، جذبهما تمويل وزارة الزراعة في الولايات المتحدة لخدمة الغابات نحو البحوث حول الآثار المترتبة على برنامج تحدي في البرية في شبه الجزيرة العليا، ميشيغان. وكان ذلك بداية لسلسلة من التحقيقات والنتائج التي أثرت في جيل من علماء النفس البيئيين.
كما يقول ستيفن كابلان، وهو أستاذ في أقسام علم النفس وعلوم الكمبيوتر والهندسة في ميشيغان: “كان ما وجدناه مثيرًا للإعجاب بشكل لا يصدق. أصبحت هذه البرية مختبرًا لدراسة تأثير الطبيعة على الناس”.

انبثقت من هذا العمل نظرية البيئات الإصلاحية الواردة في كتب مثل “With People in Mind: Design and Management for Everyday Nature” (دورية Island Press، 1998). بالاعتماد على تمييز وليام جيمس بين نوعين من الانتباه، وهما الانتباه الموجه والافتتان، يعتقد كل من رايتشيل وستيفن كابلان بأن استخدام الكثير من الأول يمكن أن يؤدي إلى ما يسمونه “إعياء الانتباه الموجه” وما يرافق ذلك من اندفاعية، وتشتت وتهيج. يمكن للسحر المتأصل في الطبيعة أن يساعد الناس على التعافي من هذه الحالة.

وبحسب ستيفن كابلان، يسبب الانتباه الموجه الإعياء لدى الناس بسبب الحمل الزائد: “إذا كنت تستطيع إيجاد بيئة حيث يكون الانتباه تلقائيًا، فيمكن لذلك أن يخفف من الانتباه الموجه، وهذا يعني بيئة ساحرة جدًا”.

إن الناس ليسوا مضطرين للتوجه إلى الغابة للاستمتاع بالآثار المنعشة للطبيعة. حتى لمحة من النافذة على الطبيعة يمكن أن تساعد. على سبيل المثال، في دراسة مشهورة، وجدت رايتشيل كابلان أن العاملين في المكاتب التي تطل على مناظر طبيعية يحبون وظائفهم أكثر، ويتمتعون بصحة أفضل، ولديهم رضى أكبر عن الحياة.

يعتمد تيري هاراتيغ Terry A. Hartig، عالم النفس الحائز على شهادة دكتوراه، على عمل رايتشيل وستيفن كابلان في أبحاثه الخاصة. لقد اكتشف في سلسلة من التجارب في المختبر والتجارب الميدانية، قدرة الطبيعة على مساعدة الناس على التعافي مما يسميه “الإنهاك النفسي الطبيعي” أو “normal psychological wear and tear”.

في إحدى الدراسات على سبيل المثال، طلب من المشاركين إكمال سلسلة من 40 دقيقة من تأثير ستروب (تسمية الألوان بالكلمات يجعل نطقها أسهل إن طابق لون الكلمة اسم اللون المطلوب) ومهام تصنيف ثنائية تهدف إلى استنفاد قدرة الانتباه الموجه لديهم.

بعد هذه المهام المجهدة، أمضى المشاركون العشوائيون 40 دقيقة إما سيرًا على الأقدام في محمية طبيعية محلية، أو مشيًا في المناطق الحضرية، أو الجلوس بهدوء وقراءة المجلات والاستماع إلى الموسيقى. بعد هذه الفترة، أظهر الذين ساروا في المحمية الطبيعية أداءً أفضل من المشاركين الآخرين في مهمة تدقيق النصوص.

كما ظهرت لديهم مشاعر أكثر إيجابية ونسبة أقل من الغضب.وقال هارتيج، وهو أستاذ مشارك في علم النفس التطبيقي في معهد الإسكان والبحوث الحضرية في جامعة أوبسالا في مدينة جيفله في السويد: “هذه ليست بيئات طبيعية خلابة أو بيئات حضرية قمعية فظيعة. نحن نحاول أن نمثل الظروف المحلية التقليدية، وذلك باستخدام ما هو متاح للناس في الطريق من الأماكن التي يمكن أن يقصدونها إذا كانوا يشعرون بالتوتر وأرادوا بعض الراحة”.

يقول هارتيج وهو متجول ومتسلق يجد الانتعاش النفسي في سلسلة جبال سييرا نيفادا في كاليفورنيا: “حتى عندما تم تمثيلها بمحاكاة تصويرية بسيطة، يمكن لظروف المقارنة الطبيعية والحضرية أن يكون لها آثار مختلفة. في إحدى الدراسات، قال أنه أظهر للناس صورًا لغابات وصورًا لمركز مدينة ستوكهولم، ووجد أن صور الغابات عززت مزاج الناس بشكل أكبر.

تقوم فرانسيس كيو الحائزة على شهادة دكتوراه أيضًا بدراسة تأثير الطبيعة على الناس. والهدف من عملها هو تحديد ما إذا كانت الطبيعة يمكن أن تساعد في التخفيف من الآثار السلبية للعيش في بيئات قاتمة ومناطق حضرية. بدلًا من التوجه إلى البرية، فهي تجري معظم أبحاثها في منازل روبرت تايلور سيئة السمعة -أكبر مشروع إسكان عام في الولايات المتحدة- في شيكاغو.

تقول كيو: “لا يعتبر معظم الناس المناظر الخضراء في هذه الدراسات مساحات طبيعية خضراء.نحن نتحدث عن أماكن خضراء معزولة تحتوي على كمية قليلة من العشب والأشجار. ومع ذلك، حتى تلك الكمية المحدودة من المناظر الطبيعية لها تأثير ملحوظ على الأطفال الذين يعيشون في مكان قريب منها”. ولاختبار نظرياتها، قامت بإجراء عدة تجارب على الأطفال، ومن ثم قارنت أداء الأطفال الذين يعيشون في المباني بالقرب من مساحة خضراء، وأولئك الذين يعيشون في المباني التي تحيط بها أماكن قاحلة. فوجدت أن الأطفال الذين يعيشون في أماكن أكثر خضارًا لديهم قدرة أكبر على التركيز، وهم أكثر قدرة على تأجيل المتع، وكبح ردات الفعل الاندفاعية.

درست كيو أيضًا تأثير الطبيعة على الأطفال الذين يعانون من اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط ADHD، في الطبقة الوسطى. ذكر الآباء أن أطفالهم أبدوا أعراضًا بعد قضائهم بعض الوقت في مساحة خضراء أقل مما أبدوه عندما مارسوا أنشطتهم في الداخل أو في المناطق الخارجية غير الخضراء.

يمكن أن تقول أن الأطفال الذين يعيشون ضمن محيط أكثر اخضرارًا كانوا أكثر ثراءً. ولكن هذا لا يفسر حقيقة أنه حتى الأطفال الأثرياء يكون أداؤهم في محيط أخضر أفضل منه في محيط بني.

شفاء الجسم

يقول الدكتور روجر أولريش مدير مركز نظم الصحة والتصميم في جامعة تكساس: “لا تؤثر الطبيعة على العقل فحسب. إذ وجد أن الطبيعة يمكن أن تساعد الجسم على الشفاء أيضًا”.

في دراسته الأكثر شهرة، قام أولريش بالتحري حول تأثير المناظر التي يراها المرضى الذين يتعافون من عملية جراحية في البطن من خلال نوافذ غرفهم. ووجد أن المرضى الذين تتطل غرفهم في المشفى على أشجار، أمضوا وقتًا أسهل في التعافي من أولئك الذين تطل غرفهم على جدران قرميدية. فقد خرج المرضى الذين تمكنوا من رؤية الطبيعة من المشفى أسرع من غيرهم، وحصلت لديهم مضاعفات أقل، واحتاجوا إلى كمية أقل من مسكنات الألم من أولئك الذين أٌجبروا على التحديق بالحائط.

كغيره من الباحثين، وجد أولريش أن مجرد عرض صور طبيعية يمكن أن يساعد. على سبيل المثال، ففي دراسة أجريت في مستشفى سويدي، وجد أن المرضى الذين خضعوا لجراحة في القلب في وحدات العناية المشددة، يمكن أن تنخفض لديهم معدلات القلق والمضاعفات والحاجة إلى مسكنات الألم من خلال النظر إلى الصور التي تعرض الأشجار والمياه.

تشكل هذه وغيرها من النتائج أساس نظرية ألريتش للتصميم الداعم، وهي سلسلة من المبادئ الإرشادية لمصممي منشآت الرعاية الصحية. لتهدئة المرضى وأسرهم والعاملين. فيجب أن تتضمن المنشآت هذه الميزات من مناظر طبيعية والفن الطبيعي في غرف المرضى، أحواض السمك في غرف الانتظار، بالإضافة إلى المساحات الخضراء والنوافير والحدائق حيث يمكن أن يرتاح المرضى والأسر والموظفين.

وبطبيعة الحال، ليس ما يراه الناس هو الجانب الوحيد الذي تؤثر فيه البيئة عليهم. فقد قام الدكتور جاري ايفانز، أستاذ العلاقات بين البيئة والإنسان في جامعة كورنيل، بدراسة تأثير التلوث الضوضائي.

ويقول إيفانز: “إحدى الأمور المثيرة للاهتمام حول العمل في البيئات الإصلاحية هو التفكير في مسألة الإصلاح من ماذا؟”.

وقد وجد إيفانز أن البيئات الصاخبة لها آثار تتجاوز التلف في حاسة السمع. فعلى سبيل المثال، في دراسة أجريت على الصفين الأول والثاني، وجد أن الأطفال الذين يحضرون المدرسة والطائرات تحلق في سماء المنطقة، قد حصلوا على درجات أدنى بمعدل عشرين في المئة في اختبارات التعرف على الكلمات.

بل إنه من الممكن حتى لكميات صغيرة من الضوضاء أن تكون ضارة. فقد وجد إيفانز أن موظفي المكاتب المتعرضين لضوضاء في المكتب أظهروا مستويات عالية من التوتر وانسحبوا من اختبارات الأداء أسرع من أولئك الذين يعملون في مكاتب هادئة.

ويقول إيفانز: “يجب على مصممي المدن والمهندسين المعماريين وغيرهم إيلاء المزيد من الاهتمام لهذه الدراسة وغيرها من البحوث الصادرة عن علماء النفس البيئية.

يعتبر المهندسون المعماريون أنفسهم نحاتين ويرون ما يفعلونه على أنه توقيعهم على الساحة. لكن العمارة لها آثار عميقة على الصحة البشرية والسلوك.”

التصميم مع أخذ الطبيعة في الاعتبار

يوافق الدكتور جوزيف جوهاز، الرئيس المنتخب للجمعية الأمريكية لعلم النفس. القسم 34 (السكان والبيئة)، والأستاذ في الهندسة المعمارية والتصميم البيئي في جامعة كولورادو في بولدر،على ذلك. ويعتقد أن أحد التفسيرات للاكتئاب الوبائي الحالي يكمن في وضع البيئات التي نعيش فيها الشبه منعزل.

يقول جوهاز:”نحن بأمس الحاجة إلى التواصل مع دمنا وأرضنا، نحن كبشر منفصلون عن دمائنا وعن أرضنا، بيئتنا الطبيعية – في هذه اللحظة في ثقافتنا”

وقد قدم اقتراحًا وهو: “أن تكون المدن ذات الكثافة السكانية العالية طويلة وضيق بدل أن تكون مستديرة وواسعة، مما يمنح جميع السكان وصولًا سهلًا إلى الريف المحيط بالمدينة”.

بدأت عالمة النفس الدكتورة جوديث هيرواجن بوضع المبادئ الأساسية لتجديد البيئة في نطاق التطبيق في عملها كمستشارة للمصممين.

بدأت هيرواجن حياتها المهنية بدراسة سلوك الحيوان. وتحول اهتمامها تدريجيًا إلى كيفية تجسيد تجارب البشر ما قبل التاريخ على غابات السافانا الأفريقية تفضيلاتهم البيئية. وتحاول الآن إيجاد سبل إلى زيادة الراحة النفسية للناس عن طريق إعطاء الغرف الداخلية طابع طبيعي.

ولتحقيق هذا الهدف، تعمل هير واجن مع المصممين لاتخاذ الأنماط الطبيعية وجعلها بطرق مجردة مناسبة للغرف الداخلية. فاستبدلت الأشكال الهندسية الغامقة بالأنماط الطبيعية المجردة في صنع أغطية الأرضيات واستخدمت أشكال تشبه الفروع في السقوف لكي تذكرنا بظلال الأشجار. ستقوم هيرواغن في تجربتها القادمة باختبار ما إذا كانت هذه النماذج المستخرجة من الطبيعة لها نفس التأثير الذي تمتلكه الطبيعة على النفس البشرية.

وتقول هيرواجن: “إذا فكرت في الأمر، يبدو هذا النوع من التصميم منطقيًا جدًا، نحن لم نتطور في بحر من مقصورات رمادية”.


إعداد: ديانا نعوس
تدقيق: عبدالله الصباغ
المصدر