تقديس الأكاذيب في العلم


تتغيّر احتمالية كون الفرضيّة صحيحةً أو خاطئةً صعودًا أو هبوطًا “كالسُلَّم” مع زيادة المنشورات وتكرار التجارب على هذه الفرضيّة.

واحتماليّة أن يعتبر المجتمع العلمي هذه الفرضيّة صحيحة يمكن أن يصبح مرتفعًا جدًا لدرجة تصل بالباحثين لعدم دراسة هذه الفرضية أبعد من ذلك وسوف تصبح من المسلّمات ويُنظر لها على أنها حقيقة علميّة

يُظهر هذا النموذج بأننا بحاجة لنشر نسبة معيّنة من النتائج السلبيّة ما لا يقل عن (20-30 %) وذلك لضمان عدم اعتماد الفرضيّات الخاطئة على أنّها حقائق علميّة

درس الباحثون “التحيُّز في النشر” كيف له أن يؤثّر أو لا يؤثّر على تقديس الحقائِق في العلم.

ففي سنة 1770 صرّح “جون آدامز” في قاعة محكمة بوسطن: << الحقائق هي أشياء ثابتة ومن غير الممكن أن نقوم بتبديلها كيفما نشاء أو حسب ميولِنا أو ما يُمليه علينا حماسنا >>
ولكن الحقائق، بالرغم من ثباتِها، لابدَّ لها من أن تمر بتجارب الإدراك البشري قبل أن يُعترف بها، أو قبل أن” تُقدّس” كحقيقة.
ونظرًا لهذا، قد يغفر البعض للنظر في النقاشات الحماسية(الانفعاليّة) ويتساءلون إذا ماكانت الحقائق قد وصلت لمستوًى التحدّي.

يعتقد كارل بيرجستروم “Carl Bergstrom” بروفيسور علم الأحياء في جامعة واشنطن، أن الحقائق تواجه احتمالًا ضئيلًا للنجاح، خاصةً إذا كان العلم يدعمها، حيث أنه كان يستخدم النمذجة الرياضية للتحقيق في ممارسات العلم، وكيف يمكن للعِلم أن يتشكّل من التحيُّزات والحوافز القائمة في مؤسسات البشر.

العِلم هو عمليةٌ لكشف الحقائق عن طريق التجارب والاختبارات العلمية، ولكنّه أيضًا سَعيٌ بَشَريّ، بُنيَت عليه مؤسسات الانسان.
حيث يطمح العلماء للمراكز ويستجيبون للحوافز تمامًا مثل أي شخصٍ آخر.
لذلك يحق لنا التساؤل -بأسئلةٍ دقيقة، قابلةٍ للإجابة-كيف يمكن لهذه الحوافز أن تُؤثر في ممارسة العِلم.

ففي مقالٍ نُشِر في 20 ديسمبر -جريدة eLife، البروفيسور “بيرجستروم” والكُتّاب المشاركون قدّموا نموذجًا رياضيًّا يكشف ما إذا كان “التحيُّز بالنشر” أو ميل المجلات العلمية في الغالب لنشر النتائج التجريبية الإيجابيّة يؤثّر على تقديس العُلماء للحقائق.
فقد أظهرت نتائجهم أن تشارُك النتائج الإيجابيّة يأتي بخطر تصديق الإدعاءات الكاذبة وإمكانية اعتمادها كحقيقة.

ولكن النتائج التي توصّلوا إليها أيضًا تعطي أملًا بأنَ تغييرات بسيطة على هذه الممارسات في النشر من شأنها أن تقلل من خطر تقديس الأكاذيب
أصبحت هذه المسائل ذات أهميّة خاصًّة خلال العقد الماضي، كما وشكّكت أشهر المقالات في استنساخ التجارب العلمية مايميّز صِحة اكتشافات المنهج العلمي.

ولكن لم يُشكّك “بيرجستروم” ولا حتّى معظم العلماء المشاركين في هذه (المناظرات/ المناقشات) في صِحة الحقائق العلمية المبرهنة والمدروسة بشكلٍ عميق، مثل نظريّة التطور وتغير المناخ بفعل الانسان أو السلامة العامة لِلُقاحات.

يقول البروفسور بيرجستروم: << لقد قُمنا بنمذجة فرص “التقديس الخاطئ” للحقائق على أقل مستويات المنهج العلمي، فالتطوّر يحصل، ويوضّح (تنوّع/اختلاف) الحياة، والتغير المناخي حقيقي، ولكننا أردنا نمذجة إذا ما كانت الانحيازات في النشر تزيد من خطر تقديس الأكاذيب على أقل المستويات من اكتساب الحقيقة >>

ويضرب البروفسور بيرجستروم مثالًا تاريخيًّا على تقديس الأكاذيب في العلم والتي مست أجسادنا أيضًا.
فقد طرح علماء الأحياء فرضيّةً بأنَّ البكتيريا تسبب تقرّح في المعدة، ولكن، وفي عام 1950 قام ” E.D. Palmer” طبيب أمراض الجهاز الهضمي بإعداد تقريرٍ يُفيدُ بأن البكتيريا لايمكنها البقاءُ حيّةً داخل أمعاء الإنسان.

يضيف بيرجستروم: << هذه الاكتشافات، وبدعٍم من فعاليّة مضادات الحموضة، أيّدت ” النظرية الكيميائيّة لتطوّر القرحة” والتي أصبحت فيما بعد مُقدَّسة، والمشكلة كانت بأن” Palmer” كان يستخدم البرتوكولات التجريبيّة التي لم تكتشف “Helicobacter pylori” جرثومة المعدة أو “الملوية البوابية”، الأمر الذي استغرق حوالي نصفَ قرن لتصحيح هذا البُهتان >>

وفي حين أن فكرة تقديس الباطل بحد ذاتها تسبب عسرًا بالهضم، فقد قام بيرجستروم وفريقه ( “سيلاس نيسن” Silas Nissen من معهد نيلز بور في الدنمارك وكل من المشاركين “كيفن جروس” Kevin Gross من جامعة ولاية كارولينا الشماليّة والطالب الجامعي “تالي مجدسن” Tali Magidson من جامعة واشنطن))

بدأوا بنمذجة مخاطر تقديس الباطل بالنظر لحقيقة أن العلماء لديهم حافز لنشر أفضل مالديهم من نتائج إيجابيّة، بينما النتائج السلبية أقل ترجيحًا في النشر في المجلاّت المحكِّمة التي تقيّم الأبحاث.

وإن أثر التحيُّز في النشر يكمن في أنّ النتائج السلبيّة قلّما يُنظر لها وتدقّق كما هو الحال في نظيرتها العلميّة. فهل هذا تضليلٌ لعمليّة التقديس؟

ومن أجل هذا النموذج، قام فريق بيرجستروم بإدراجِ متغيّراتٍ كمعدّلاتِ الخطأ في التجارب، وبيّن كم هي الدلائل مطلوبة للمُطالبة بتمجيد هذه النتائج كحقيقة والتردد في النتائج السلبيّة المنشورة.

وقد أظهر نموذجهم الرياضِي علاقةً بين النتائج السلبيّة والمخاطر الناتجة عنها، بحيث أنه كلّما قلّت معدلات النتائج السلبيّة في المنشورات، ارتفعت معها خطورة تقديس الأكاذيب في العلم. وحتّى مع رفع حدّ التقديس والذي يعتبرأحد الحلول الممكنة، لم يساعد على التخفيف من هذه المخاطر.

وحسب قول “بيرجستروم”: << تبيَّن أن طلب مزيد من الدلائل قبل المطالبة باعتماد النتائج كحقيقة لا يساعد، وبدلًا من ذلك، فقد أظهر نموذجنا بأنك بحاجة لنشر المزيد من النتائج السلبيّة، وربما ما لا يقل عما نحن عليه الآن >>

يُظهر هذا الشكل نسبة النتائج السلبية الخاطئة حتّى 0.2(وهو المعيار المستخدم في العديد من المجالات العلميّة). في حين أنّ معيار نسبة النتائج الإيجابيّة الخاطئة هو 0.05( الخط الأبيض/الأصفر) ولكن هناك دلائل تشير إلى أنّه يستخدم في التجارب بأعلى من ذلك. ويظهر الشكل أيضًا أنه إذا قُمت بنشر أقل من 20 إلى 30 % من النتائج السلبيّة، سيكون هناك احتمال كبير بإعتماد فرضيّة خاطئة على أنّها حقيقة علمية بعد تكرار التجارب والمقالات المنشورة.

وبما أن معظم النتائج السلبيّة تبقى في الخفاء داخل صفحات دفاتر المُختبر، فمن الصعب تحديد نسبتها التي يتم نشرها، ولكن التجارب التحليليّة الدقيقة (التجارب السريريّة)، والتي يجب أن تكون مُسجّلة لدى إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكيّة قبل البدء بها، توفّر نافذة على عدد المرّات التي تشقُّ بها النتائج السلبيّة طريقها عبر نظيرتها من المواد المطبوعة المدقّقة.

ففي عام 2008 أظهرَ تحليلٌ ل (74) تجربة سريريّة للأدوية المضادة للاكتئاب بأنَّ نسبة ماتمَّ نشره من نتائج سلبيّة بالكادِ وصلت لـ 10%، مقارنةً بأكثر من 90% من النتائج الإيجابيّة.

يقول “بيرجستروم”:<< من المحتمل أن تكون النتائج السلبيّة قد نُشرت بنسبٍ مختلفة في المجالات الأخرى من العلم، أمّا في يومنا هذا، فلدينا خيارات جديدة قد تؤثّر على هذا، مثل النشر الذاتي على الإنترنت وزيادة المجلات التي تقبل ببعض النتائج السلبيّة. ولكن بشكلٍ عام، نحن بحاجة لنشر النتائج السلبيّة أكثر مما نحن عليه الآن >>

وأشار نموذجهم بأن للنتائج السلبية الأثر الأكبر في الإقتراب من موضوع المطالبة بالتقديس.
تلك الإكتشافات تمهّد الطريق للعلماء لتجنّب تقديس الأكاذيب.

ويضيف: << من خلال تدقيق أكثر ومراقبة عن كثب للمطالبات التي تحظى بقبولٍ واسع، يمكننا تمييز الادّعاءات الباطلة ومنع القبول بها أو تقديسها >>
بالنسبة لبيرجستروم، هذا النموذج الرياضي يزيد من التساؤلات المُحقّة حول كيفيّة اختيار العلماء للمنشورات ومشاركة نتائجهم الإيجابيّة والسلبيّة.
ويأمل بأن تمهّد نتائجهم الطريق لإكتشافات مفصّلة أكثر لتحيزات المؤسسات العلميّة، متضمنةً تأثير مصادر التمويل وتأثيرات مختلفة من الحوافز في المجالات المختلفة من العلم.
ولكنه يؤمن بأن التحوّل الثقافي مطلوب لتجنّب مخاطر التحيُّز في النشر

ويختم بيرجستروم: << كمجتمع، فإننا نميل لقول “اللعنة، لم ينجح هذا، لن أقوم بنشره” ولكنني أود من العلماء أن يعيدوا النظر في ذلك الميل، لأن العلم هو الفعّال الوحيد إذا قمنا بنشرِ جزء معقول من نتائجنا السلبيّة >>


ترجمة: رامي الحرك
تدقيق بدر الفراك
المصدر