هل تخدعنا أدمغتنا؟
ربما، أو هذا على الأقل ما توصلت إليه آخر الدراسات في علم النفس والإدراك.

أُجريت مذ منتصف تسعينيات القرن الماضي العديد من الدراسات والأبحاث التي تفسر الآليات المُسببة لاختلاق ذاكرتنا أحداثًا لم تحصل أبدًا. وفي عام 1995، نشر الباحثان لوفتوس وجاكلين بيركل نتائج دراستهما الشهيرة، التي عُرفت لاحقًا باسم «الضياع في المجمع التجاري».

شملت الدراسة 24 شخصًا وتعاون الباحثان مع عائلات المشاركين في التجربة لكتابة وصف لأربعة أحداث مرتبطة بطفولة كل مشارك. ثلاثة من هذه الأحداث حقيقية، لكن الحدث الرابع كان قصةً مُختلَقةً عن ضياع المشارك في مجمع تجاري. والقصة المُختلقة هي باختصار أن المشارك عندما كان في سن الخامسة أو السادسة، تاه لمدة طويلة في مجمع تجاري فشعر بالخوف وبدأ بالبكاء، لكن رجلًا عجوزًا ساعده فوجد عائلته في النهاية.

«من الجدير بالذكر أن عائلات المشاركين أكدت أن أبناءهم لم يمروا أبدًا بتجربة الضياع في المجمع التجاري».

قرأ المشاركون الأحداث الأربعة وكتبوا التفاصيل التي استطاعوا تذكرها عن كل منها. بعد ذلك بأسبوعين، أُجريت مقابلات مع المشاركين وطُلب منهم سرد كل ما يتذكرونه عن هذه الأحداث. دُعي المشاركون لمقابلات ثانية -بعدها بأسبوع أو اثنين- وطُلب منهم سرد ذكرياتهم مرة أخرى.

تبيّن بعد المقابلة الأخيرة، أن ستةً من بين الأربعة والعشرين مشاركًا اختلقوا تصورًا كاملاً أو جزئيًّا لضياعهم في المجمع التجاري. اختلف تأثير الذكرى المزيفة على المشاركين لكن بعضهم تذكر أحداثها بشكلٍ مُفصل: «ما زلت أذكر الدخول إلى حجرة تبديل الملابس لأكتشف أن والدتي غير موجودة في المكان الذي قالت إنها ستكون فيه».

اصطُلِح على تسمية تقنية البحث المعتمد على معلومات من أفراد العائلة لاختلاق أو تحفيز ذكريات غير حقيقية عن تجارب الطفولة «تقنية الضياع في المجمع التجاري». وتمكن الباحثون في أكثر من مناسبة من خلق ذكريات مزيفة بدفع المشاركين إلى تذكر أحداث حقيقية مع أحداث مزيفة. في دراسة مشابهة أجراها ناش وهيبس عام 2001، استطاع الباحثون أن يدفعوا بعض المشاركين إلى الاعتقاد أنهم أُنقذوا من غرقٍ مؤكد في طفولتهم.

أثبتت نتائج الأبحاث، أنه يمكن للبشر أن يُكوِّنوا معتقدات وذكريات عن أحداث لم تحصل في حياتهم أبدًا، وقوة الخيال واحدة من أهم العوامل التي تساعد في خلق الذاكرة المزيفة، لأننا ببساطة نتخيّل كيف كنا سنتخيل الماضي لو حصل بطريقة مختلفة.

أثبتت دراسات عديدة أن تخيلُنا حدثًا معينًا يزيد من ثقتنا أن هذا الحدث قد حصل بالفعل في طفولتنا، وهي ظاهرة تُعرف باسم «تضخم الخيال». لكن كيف يمكن لتخيل حدث معين –لم يحصل أصلًا – أن يخلق لدينا ذاكرةً قويّةً نصدقها؟ هناك عدّة عوامل تلعب دورًا في هذا المجال.

أولها أن تكرار تخيل حدث معين يجعله أكثر أُلفةً، ويسيء الناس تفسير إحساس الألفة هذا ويتخذونه دليلًا ليقنعوا أنفسهم أن الحدث قد حصل بالفعل.

والعامل الثاني أنه بالإضافة إلى إحساسنا المتزايد بالألفة، يعاني أغلبنا من تجربة تسمى «بالالتباس أو التباس المصدر». ويعني هذا أن الدماغ أحيانًا لا يستطيع أن يميز إن كان مصدر الذاكرة المُسترجَعة حدثًا حقيقيًا أو متخيلًا. ومع الوقت نفسر -بطريق الخطأ- الحدث المُتخيل على أنه ذكرى لحدثٍ حقيقي واقعي.

أما العامل الثالث، فهو أنه كلما كانت التجربة أكثر إثارةً للخيال وذات تفاصيل أدق، كلما زادت احتمالية أن نعتبرها حدثًا حقيقيًا. إذ تمنحنا التفاصيل الحسية والشاعرية الحية في الأحداث المُتخَيلة شعورًا أقوى بقربها من الحقيقة.

من الواضح، إذًا، أنّ تلاعبات بسيطة مثل تمارين الإيحاء والتصور يمكن أن تزيد احتمالية تشكيل ذكريات لأحداث لم تحصل أبدًا.

لكن لا يسعنا في النهاية إلا أن نقر بأن الذاكرة البشرية دقيقة في أغلب الأحيان، خصوصًا عند تذكّر أهم الأحداث التي مرت في حياتنا.

تختلط علينا بعض ذكريات حياتنا اليومية عن قصد أو عن غير قصد، لكن هذا الخلط لا يصيب في الغالب إلا معلومات محدودة. أما التشويه المفاجئ الذي يصيب بعض صور الذاكرة فقد يكون مثيرًا للقلق. يمكن إذًا لذاكرة مزيفة أو مشوهة أن تبدو لنا حقيقةً وواقعية.

المصدر