لماذا نصبح كثيري النسيان مع التقدّم بالسن؟ وماذا يمكننا فعله حيال ذلك؟


كيف يكون باستطاعتنا تذكّر بعض الأحداث بالتفصيل الدقيق، بينما تتلاشى ذاكرتنا في أوقاتٍ أخرى؟ تتغير ذاكرتنا مع التقدّم بالسن، لذا ربما نملك ذاكرةً تنزلق في لحظةٍ حين نريدُ جلبَ شيءٍ ما من الغرفة المجاورة، بينما نبقى قادرين على استدعاء أحداثٍ هامةٍ من التاريخ بالتفصيل الدقيق. لكن لماذا؟

إحدى النواحي الهامة لتركيب الذاكرة والاحتفاظ بالذكريات، هي الارتباطات التي نبنيها بين المعلومات التي نحاول لاحقًا أن نتذكرها مع غيرها من التفاصيل. على سبيل المثال، متى وأين وقعَ الحدث، من كان هناك، أو ماهي المشاعر التي انتابتنا في ذلك الوقت.

هذه التفاصيل لا تشكِّلُ فقط أدلةَ بحثٍ في ذاكرتنا، وإنما تسمح أيضًا بالسفر العقلي عبر الزمن لكل ما عشناه، عندما نستدعي هذه التفاصيل المخزَّنة في الذاكرة، يبدو الأمر وكأننا نعيش التجربة مجددًا في عقولنا.

يشير العلماء إلى هذه التجربة بالتذكّر، والبعض يميّزها عن الأُلفة familiarity التي تشير إلى الشعور العام الذي عشناه سابقًا حيال شيءٍ ما، لكن لسنا قادرين تمامًا على الإحاطة بكل تفاصيل الحدث بدقة. على سبيل المثال، تصادفُ شخصًا ما في السوق أو في وسائل النقل العامة ويبدو مألوفًا بشكلٍ مباشر إلّا أنك لا تتذكّر من هو.

تجربة الألفة سريعةٌ جدًا بحيث بإمكانك أن تتعرَّف بسرعةٍ على الأشخاص، إلّا أنّ تذكر تفاصيل هوياتهم تصبح أبطأ قليلًا (على أمل أن يحدث ذلك قبل أن يقتربوا منك). هذا مثالٌ عن كيفية اختلاف العمليات على مستوى شخصي، أو ما ندعوه بالظواهر phenomenological.

ماذا يحدث في الدماغ؟

بعيدًا عن اختلافات السلوك والظواهر التي تجعل ألفة وجهٍ مختلفةً عن تذكّره، فقد أشار البحث أيضًا بأنّ مناطقَ مختلفةً من الدماغ تكمن وراء الظاهرة. يشارك الحُصين، المتموضع وسط الفصَّينِ الصدغيين للدماغ، بقوةٍ في تشكيل الارتباطات التي تساعدنا على زيادة التذكر. بينما تبدو القشرة الشميّة الداخلية والمحيطية أكثر أهميةً بالنسبة للألفة.

أظهر البحث بأنَ القدرة على استرجاع حدثٍ ما والتجربة الظاهرية للتذكر تنخفض كلما تقدَّم البشر في السن، بينما تبقى الألفة غير مرتبطةٍ نسبيًا بالعمر.

أظهرت الدراسات أيضًا بأنَّ السلامة البنيوية للحُصين تتراجع مع التقدُّم بالسن، بينما أظهرت القشرة الشمية الداخلية تغيراتٍ صغرى في الحجم. بمعنى آخر، تميل مناطق الدماغ الهامة للتذكر كالحصين إلى التراجع بالحجم، بينما تبقى المناطق التي تدعم الألفة سليمةً أكثر مع التقدم بالعمر.

يدرك العلماء بأنَّ الذاكرة لا تعمل كشريط تسجيلٍ خالٍ من العيوب، فغالبًا نحن لا ننسى فقط المعلومات، بل نُسيء تذكُّرها، حتى لو شعرنا بأننا نتذكر التجربة بشكلٍ واضحٍ ودقيق. ولأنَّ الكهول يصبحون غير قادرين تدريجيًا على استرجاع تفاصيلَ محدَّدةٍ لحدثٍ ما، فهذا يعني أنّهم أكثر عرضةً لمعاناة الذاكرة الخاطئة.

كيف نمنع الذكريات من الانزلاق؟

ماذا يمكن أن تفعل لمنع أو عكسِ هذه التغيرات مع التقدم بالسن؟
بينما لا توجد حبّةٌ سحريةٌ أو طعامٌ خارقٌ يستطيع حمايتنا، يقترح البحث عددًا من الاستراتيجيات يمكن أن تساعد في بعض التأثيرات الأكثر صعوبة للشيخوخة على ذاكرتنا.

أحد الحلول الشائعة المقترحة هو حل الكثير من الكلمات المتقاطعة وألغاز سودوكو قدر الإمكان. إنها فكرةٌ بديهية رائعة، إذا فكرنا بالدماغ كعضلة، فينبغي أن نقوم بتمرين تلك العضلة قدر المستطاع، للحفاظ عليه فَطِنًا وبصحةٍ جيدة. لكن هناك دليل ضعيف، حتى الآن، يدعم هذا الاعتقاد. بإمكانك أن تتنبأ، في أفضل الأحوال، بأنك ستؤدِّي جيدًا في الكلمات المتقاطعة، لكنَّ نقل هذه المهارات إلى أنواع أخرى من القدرات المتقدمة، كأن تكون قادرًا على التفكير المجرَّد بشكلٍ جيد أو تذكر معلوماتٍ أكثر، فإنَّ البحث يدعم ذلك بدرجةٍ أقل.

لذا ينبغي أن تستمر بممارسة الكلمات المتقاطعة إن كنت تستمتع بذلك، لكن لا تنخدع بأنَّ تدريب الدماغ سيجعله يتلافى تراجع الإدراك أو الخرف.

الطريقة الأكثر احتمالًا للمساعدة هي القيام بتمارين جسدية أكثر وخاصةً التمارين الهوائية، إذ يعتبر البحث بأن فوائد التمرين ليست فقط على الصحة الجسدية لكن أيضًا على الصحة العقلية والقدرات، هي أكثر رسوخًا بكثيرٍ مقارنةً مع تدريب الدماغ، لكن هذه التمارين لا ينبغي أن تكون مجهدةً كالركض في الماراثونات، بل بسيطةً كالمشي السريع، أو أي شيءٍ يجعل قلبك يخفق ويجعلك تتصبب عرقًا، هذا كفيلٌ بأن يظهر فوائدَ قويةً لأداء ذاكراتك.

أشار البحث أيضًا بأن مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة كالحُصين تظهر زيادةً في الحجم كنتيجةٍ للتمارين الهوائية. وبالتالي فالنصيحة الأفضل لتحسين ذاكرتك هي استخدام نصف الساعة التي تقضيها ربما في حل لغز سودوكو في الذهاب في جولة مشيٍ لطيفة مع صديق عوضًا عن ذلك.

فينيسا لويزا Vanessa Loaiza، المحاضِرة في القسم النفسي، جامعة إسيكس Essex.

نُشرت هذه المقالة في The Conversation.


إعداد رنيم جنيدي
تدقيق بدر الفراك
المصدر