سلسلة علم الأحياء الكميّة
الحلقة الخامسة: الوعي الكمّي


مجرد ذكر الوعي الكمّي يجعل معظم الفيزيائيين في ذهول، كما يبدو أن العبارة تثير تأملات غامضة ومشوّقة لمعالم العصر الجديد، لكن لو أثبتت الفرضية الجديدة بأنها صحيحة ستلعب التأثيرات الكمية دورًا بالغًا في الإدراك البشري.

قام الفيزيائي ماثيو فيشر (Matthew Fisher) من جامعة كاليفورنيا بنشر ورقة بحثية يقترح فيها أن اللف المغزلي لأنوية ذرات الفسفور قد تعمل بمثابة وحدات كمومية بدائية في المخّ، والتي ستمكّن الدماغ من العمل بشكل أساسي كجهاز حاسوب كمّي.

قبل 10 سنوات تمّ رفض فكرة فيشر من قبل العديد من العلماء، وقد أثار هذا النوع من الأفكار عددًا من الفيزيائيين وخاصة في عام 1989 عندما اقترح روجر بنروز Roger Penrose)) أن تراكيب البروتينات الغامضة التي تدعى الأنابيب المايكروية قد لعبت دورًا هامًا في الوعي البشري من خلال استغلال التأثيرات الكمية. ويعتقد مجموعة من الباحثين أن هذه الفرضيات معقولة إلى حد ما.

فرضية فيشر تواجه نفس العقبة الشاقة التي تعاني منها الأنابيب المايكروية؛ وهي ظاهرة تسمى فك الترابط الكمّي (Quantum Decoherence). لبناء حاسوب كمّي يتعيّن عليك ربط الوحدات الكمومية -البتات الكمّية من المعلومات (qubits)- في عملية تسمى التشابك (Entanglement).

لكن البتات الكمّية المتشابكة تتواجد بحالة هشة، لذلك يجب أن تكون محمية بعناية من أي ضجيج في البيئة المحيطة إذا ما أُريد للتشابك أن يدوم لفترات أطول. فمجرّد اصطدام فوتون واحد مع البت الكمّي سيكون كافيًا لفك الترابط الكمّي؛ مما يعني تدمير التشابك ومحو خصائص الكمّ من النظام.
إنه تحدٍ كبير للقيام بمعالجة كمّية في بيئة مختبرية مُسيطَر عليها بعناية، ناهيك عن الفوضى المعقّدة الدافئة والرطبة في عالم الأحياء البشري، حيث أن الحفاظ على الترابط لفترات طويلة بما فيه الكفاية هو أمر قريب من المستحيل.

مع ذلك، تشير الأدلة أن النظم البيولوجية تستخدم ظواهر ميكانيكا الكمّ في عدة جوانب، عملية البناء الضوئي على سبيل المثال حيث تساهم التأثيرات الكمية على تحويل أشعة الشمس إلى وقود، لاحظ العلماء أيضًا أن الطيور المهاجرة لديها بوصلة كمّية خاصة تمكنها من استغلال المجال المغناطيسي للأرض والملاحة، بالإضافة إلى أن حاسة الشمّ لدى الإنسان تستند على إحدى أهم خصائص ميكانيكا الكمّ.

أصيب فيشر بحالات من الاكتئاب وظلّ يعاني لسنوات، حتى وجد له أطباء الأعصاب العلاج المناسب، وتجربته هذه أقنعته أن العقاقير قد عملت بالفعل. لكن فيشر تفاجأ عندما اكتشف أن علماء الأعصاب لا يفهمون سوى القليل عن الآليات الدقيقة وراء كيفية عمل الأعصاب.

هذا أثار فضوله ونظرًا لخبرته في ميكانيكا الكمّ، لذا وجد نفسه يفكر في إمكانية العمليات الكمية في الدماغ. لاحظ أن جميع الأدوية النفسية تقريبًا هي عبارة عن جزيئات معقّدة، وقد ركّز على أبسط العناصر وهو الليثيوم لأنه عبارة عن كرة من الإلكترونات تحيط بالنواة.

ركّز فيشر على حقيقة أن الليثيوم المتاح في الوصفات الطبية من الصيدليات المحلية هو في الغالب نظير شائع يسمى الليثيوم -7، فبدر إلى ذهنه سؤال: هل النظائر المختلفة مثل النظير الأكثر ندرة وهو الليثيوم -6 سيعطي نفس النتائج؟ من الناحية النظرية ينبغي أن تعطي نفس النتائج طالما هي متطابقة كيميائيًا إلا أنها تختلف فقط في عدد النيوترونات في النواة.

في عام 1986، قام مجموعة من العلماء في جامعة كورنيل بفحص آثار النظائر على سلوك الفئران. حيث تمّ فصل الفئران الحوامل إلى ثلاث مجموعات، أعطيت إحدى المجموعات الليثيوم -7 وأعطيت المجموعة الثانية الليثيوم -6 وبقيت المجموعة الثالثة للمقارنة.

عندما وُلِدت الجراء لاحظ العلماء أن المجموعة التي أُعطيت الليثيوم -6 أظهرت سلوكيات الأمومة أقوى بكثير مثل الرعاية والرضاعة وبناء العش، بالمقارنة مع الفئران التي أُعطيت الليثيوم -7 والفئران التي لم تعطى شيء.

هذه النتائج أذهلت فيشر، لا ينبغي فقط أن تكون التركيبة الكيميائية للنظائر متطابقة، فإن الفرق الطفيف في الكتلة الذرية من شأنه أن يخفق في البيئة المائية للجسم، وهذا ما قد يفسر الاختلاف في السلوك الذي لاحظه الباحثون.

يعتقد فيشر أن السرّ يكمن في اللفّ المغزلي للنواة، وهي خاصية كمّية تؤثر على مدة بقاء كل ذرة مترابطة بمعنى معزولة عن محيطها. كلما كان اللفّ المغزلي أصغر، كانت النواة أقل تفاعلًا مع المجالات المغناطيسية والكهربائية حولها وبالتالي سرعة أقل لفكّ الترابط.

بما أن الليثيوم -6 يختلف عن الليثيوم -7 في عدد النيوترونات؛ فإنهما حتمًا مختلفان في اللف المغزلي، بالتالي فإن الليثيوم -7 يفك الترابط بسرعة كبيرة جدًا لأغراض الإدراك الكمّي، بينما يبقى الليثيوم -6 متشابكًا لفترة أطول.

يحتاج الدماغ إلى آلية لتخزين المعلومات الكمّية في البتات الكمومية لفترات طويلة بما فيه الكفاية، لا بدّ من وجود آلية لمشابكة البتات الكمومية المختلفة، وهذا التشابك يجب أن يمتلك بعض الوسائل الكيميائية الممكنة للتأثير على كيفية تحفيز الأعصاب بطريقة ما.

يجب أن يكون هنالك أيضًا بعض الوسائل لنقل البيانات الكمّية المخزونة في البتات الكمومية في جميع أرجاء الدماغ.

هذا أمر بالغ الصعوبة، على مدى 5 سنوات من السعي فقد رشّح فيشر عنصرًا موثوقًا لخزن المعلومات الكمّية في الدماغ وهي ذرات الفسفور، العنصر البيولوجي الوحيد المعروف غير الهيدروجين الذي يمتلك لفًا مغزليًا بمقدار نصف، وهو رقم منخفض بحيث يجعل بقاء الترابط لفترات أطول.

الفسفور لا يمكن أن يجعل البتات الكمومية مستقرة بحدّ ذاته، لكن يمكنه تمديد ترابط ذراته لفترات أطول في حالة ربط الفسفور مع أيونات الكالسيوم لتشكيل تجمعات.

في عام 1975 لاحظ آرون بوسنر (Aaron Posner) من جامعة كورنيل تجمعات شاذة من ذرات الكالسيوم والفسفور في الأشعة السينية للعظام. فقام برسم هيكل التجمعات على شكل تسع ذرات من الكالسيوم وست ذرات من الفسفور وسمي لاحقًا باسم “جزيئات بوسنر Posner molecules”.

انتشرت التجمعات مجددًا في السنوات الأخيرة عندما قام العلماء بمحاكاة نمو العظم في سائل اصطناعي، فقد لاحظوا وجود التجمعات عائمة في السائل. وجدت التجارب اللاحقة دليلًا على وجود التجمعات في الجسم. حيث يعتقد فيشر أن التجمعات يمكن أن تكون بمثابة البتات الكمومية الطبيعية في الدماغ.

عند تتبع العمليات التي تجري في الخلية، يمكن ملاحظة أحد المركبات الكيميائية يدعى بيروفوسفات pyrophosphate)) وهي مكوّنة من جزيئتين من الفوسفات المرتبطة معًا، كل جزيئة مكوّنة من ذرة فسفور محاطة بعدد من ذرات الأكسجين بحيث يكون اللفّ المغزلي لها صفر.

التفاعل الحاصل بين اللفّ المغزلي لجزيئات الفوسفات يجعلها متشابكة، ويمكن أن تتصل بأربع طرق مختلفة: ثلاث منها تجعل اللفّ المغزلي الإجمالي للزوج يساوي واحد (تسمى حالة التشابك الثلاثي triplet)) ويكون فيها التشابك ضعيف جدًا).

لكن الطريقة الرابعة تجعل اللفّ المغزلي الإجمالي للزوج المتشابك يساوي صفر (تسمى حالة التشابك الأحادي singlet) بحيث يكون فيها التشابك بأقصى درجة وهو أمر حاسم بالنسبة للحوسبة الكمومية.

بعد ذلك، تقوم الإنزيمات بفكّ جزيئات الفوسفات المتشابكة إلى قسمين من أيونات الفوسفات الحرة، لكنها تبقى متشابكة حتى بعد انفصالها، وتحدث هذه العملية بسرعة عالية جدًا. في حالة التشابك الأحادي بإمكان هذه الأيونات أن تتحد بدورها مع أيونات الكالسيوم وذرات الأكسجين لتشكيل جزيئات بوسنر.
بما أن كل من الكالسيوم وذرات الأكسجين لا تمتلك لفًا مغزليًا نوويًا فإن ذلك يحافظ على اللفّ المغزلي الكلي مساويًا للنصف، مما يساهم في زيادة أزمنة التشابك. لذا فإن هذه التجمعات تحمي الأزواج المتشابكة من التدخّل الخارجي فتبقى مترابطة لفترات أطول بكثير قد تستمر لساعات أو أيام أو حتى أسابيع.
بهذه الطريقة يمكن للتشابك أن يتوزّع عبر مسافات طويلة في الدماغ، مما يؤثر على إطلاق النواقل العصبية وتحفيز نقاط الاشتباك العصبي بين الخلايا العصبية.

اختبار النظرية

الباحثون الذين يعملون في مجال البيولوجيا معجبون باقتراح فيشر، تقول الفيزيائية ألكسندرا أولايا كاسترو Alexandra Olaya-Castro)) من كلية لندن الجامعية التي عملت على التمثيل الضوئي الكمّي: «إنها فرضية مدروسة جيدًا، فهي لا تعطي الأجوبة لكنها تثير الأسئلة التي قد تقود إلى كيفية اختبار خطوات معينة في الفرضية».

الاختبار التجريبي هو ما يحاول فيشر القيام به بالضبط، فقد قضى إجازة تفرّغ علمي في جامعة ستانفورد في العمل مع الباحثين هناك لتكرار نتائج دراسة 1986 التي أجريت على الفئران الحوامل، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال، حيث أن النتائج لم تقدّم الكثير من المعلومات. لكنه يعتقد إذا ما اعتمد على البروتوكول المعتمد أثناء إجراء التجربة الأصلية عام 1986 ستكون النتائج حاسمة.

وقد أجرى فيشر المزيد من التجارب في الكيمياء الكمّية العميقة مع علماء من مختلف الأماكن، قبل كل شيء يود التحقّق فيما إذا كانت فوسفات الكالسيوم حقًا تشكل جزيئات بوسنر المستقرة، وهل اللفّ المغزلي لأنوية الفسفور في هذه الجزيئات يخلق تشابكًا لفترات زمنية طويلة بما يكفي؟

الباحثة كاسترو والكيميائي بيتر هور (Peter Hore) من جامعة اكسفورد يشككون في ذلك ولا سيما أن تقدير فيشر هو بقاء التشابك ليوم أو أكثر، تقول كاسترو: «أعتقد أنه من غير المحتمل جدًا، لكي أكون صريحة، فإن أطول نطاق زمني بما يتعلق بالنشاط البيوكيميائي هو بمدى ثوانٍ وهذا وقت طويل جدًا، بإمكان الخلايا العصبية تخزين المعلومات لمدة مايكرثانية».

يقول هور: «إن الترابط يمكن أن يدوم إلى حد ثانية واحدة في أحسن الأحوال، هذا لا يفسد الفكرة كلها، لكني أعتقد أنه بحاجة إلى جزيء مختلف للحصول على أزمنة ترابط طويلة، أنا لا أعتقد أن جزيئة بوسنر تفي بالغرض لكني أتطلع إلى معرفة كيف ستسير الأمور».

الكثير من جوانب فرضية فيشر تتطلب أيضًا فحصًا أعمق وهو يأمل بأن يكون قادرًا على إجراء تجارب للقيام بذلك، هل بنية جزيئة بوسنر متناظرة؟ وكيف هو اللفّ المغزلي للأنوية معزولًا؟

ماذا لو كانت كل تلك التجارب تثبت في النهاية أن الفرضية خاطئة؟ يقول فيشر: «إن استبعاد ذلك سيكون هامًا علميًا، سيكون من الجيد للعلم أن يعرف».


إعداد: سرمد يحيى
تدقيق: دانه أبو فرحة
المصدر