لقد أصبحت عبارة «الدليل العلمي» جزءًا من اللغة العاميَّة، ولكنها عبارة شائكة حين يتم تناولها أثناء مناقشة القضايا البيئيَّة أو الصحيَّة أو الاجتماعيَّة الكبرى.

وتُعدُّ قضية تغير المناخ أحد الأمثلة.

كما يُعدُّ حظر الاتحاد الأوروبي لـ (المبيدات الحشرية-neonicotinoid) مثالًا آخر (neonicotinoid: نوع من المبيدات الحشرية التي تتفاعل مباشرة مع الجهاز العصبي وتشبه كيميائيًا النيكوتين).

وقد سمعنا كثيرًا بالعبارة القائلة: «قضية أو مسألة مقرونة بدليل»، مما يدل على أهمية القضية والحاجة لإتخاذ الإجراءات حيالها.

ويُقدِّم هذا الدليل مؤيدوه بالطريقة نفسها التي يُقدَّم بها دليل في المحكمةعادةً لدعم سياسات أو قرارات ستؤثر علىأنماط حياة الناس.

لكن في حالة المحكمة، نادرًا ما يتم إخبارنا بالضبط عن مصدر الدليل وسبب اعتباره دليلًا.

فالدليل العلمي هو معلومات جُمِعَت من البحث العلمي، والتي تستغرق الكثير من الوقت (والصبر!) للمعالجة.

لكن هنالك قليل من الشروط التي يجب توافرها في البحث العلمي لجعله مقبولًا «كدليل» من صانعي القرار، وفي النهاية منَّا جميعًا.

• الموضوعية والحياد

يحتاج البحث لموارد ماليَّة لتوفير أجهزة المختبر وعمل المسوحات الميدانيَّة والتجهيزات، ناهيك عن أجور جميع الأشخاص المشاركين في المشروع.

ولا تظهر الأموال بالتأكيد من العدم، حتى ولو حاولوا ذلك في قسم الفيزياء الكموميَّة!

فيجب أن يتقدَّم غالبية الباحثين باستمرار بطلبٍ للموارد الماليَّة كي يستطيعوا تنفيذ أبحاثهم.

ويمكن أن تتوفَّر تلك الموارد الماليَّة من مصادر مختلفة، عادة الهيئات الحكوميَّة مثل مجلس البحوث البريطاني «ARC»، أوالمؤسسات الأكاديميَّة أو البحثيَّة، أو المنظمات غير الربحيَّة أو حتى الهيئات الصناعيَّة.

ويتم الفصل في الطلبات المُقدَّمة على أساس الجدارة العلميَّة وصلتها الوثيقة بالمجتمع أو مصالح الهيئة المُموِلة.

وفي الغالب، تُوزَّع الأموال بعدل.

لكن في حال تمويل منظمة ما لمشروع بحثي سيعود بالنفع عليها ماليًا، لا تُقبل النتائج بصفتها «دليلًا» مالم يتوصَّل باحثون مختلفون للنتائج نفسها من خلال بحوثهم المستقلة والخاصة بهم.

• ضمان صحة ودقة النتائج

يرتكز الدليل العلمي على البيانات، ومن الضروري للباحثين التأكد من أنَّ البيانات التي يجمعونها تُمثِّل «الحالة الحقيقية».

مما يعني استخدام طرق مقرَّرة ومناسبة لجمع وتحليل البيانات وضمان إجراء البحث بطريقة أخلاقيَّة وآمنة.

وقد تكون سيناريوهات الضبط أو المقارنة ضرورية عند اختبار الآثار والتأثيرات، على سبيل المثال عند تطوير منتجات جديدة «كالأدوية»، أو تقييم إجراءات إدارة «مثل استخدام مبيدات الآفاتالزراعيَّة».

كما يُمثِّل سيناريو الضبط أو المقارنة النقيض لسيناريو الاختبار.

فالنتائج التي تظهر خلال سيناريو الاختبار مضمون أنَّها ناتجة عن المنتج الذي يجرياختباره أو اختبار تأثيره، ولا شيء آخر.

أمَّا إذا انطوى السيناريو على عمليات بيئيَّة من نوع ما، فينبغي تنفيذ سيناريو الاختبار وسيناريو الضبط أو المقارنة بطريقة مثاليَّة في ظل ظروف طبيعيَّة «أو في بيئة تحدث فيها هذه العمليات بشكل طبيعي».

ويكون أحيانًا تنفيذ ذلك مستحيلًا عمليًا، ويحتاج أن تُجرى العمليات في المختبر بشكل أساسي بجانب الدراسات الميدانيَّة لإمكانية التحكُّم في «عوامل الإزعاج والتشتيت».

وبالنسبة لمسألة المبيدات الحشريَّة الأخيرة،فإذا أراد باحث إثبات عدم تأثير استخدام المبيدات على النحل المتواجد في الحيز البيئي الذي استخدم فيه المادة الكيميائيَّة بشكل طبيعي، سيحتاج لاختبار أو تجربة سيناريوهين مختلفين.

فستمارس خلية نحل عملها في الحقل حيث تتعرض للمبيدات.

وتتواجد خلية نحل ثانية في الموقع البيئي العام نفسه كالخلية الأولى «لضمان تعرُّض كلاهما للظروف المعيشيَّة العامة نفسها»، لكن تبقىغير ملوثة تمامًا بالمبيدات طوال فترة الاختبار أو التجربة.

ومن الواضح استحالة إدارة هذه العملية في ظل ظروف طبيعيَّة، حيثما لا أحد يستطيع التحكُّم في انجراف القطيرات الكيميائيَّة أو حركة الحشرات الصغيرة في أنحاء المكان الطبيعي! وفي هذه الحالة، قد لا توجد دراسات معتمدة على الميدان بشكل كامل، لكن سيكون من التضليل القول بأنَّ «نقص الدراسات الميدانيَّة» يعني عدم تأثير المبيدات الحشريَّة على النحل.

• مراجعة الأقران أو النظراء وإجماع المتخصصين

إنَّ تحقيق تلك الشروطخطوة هامة للغاية لأنَّهاتحوِّل البحث «إلى الدليل» الذي نتكلم عنه.

فيجب أن يُقدِّم الباحثون بياناتهم، ونتائجهم واستنتاجاتهم في شكل تقرير أو ورقة علميَّة.

كما يجب أن تُراجع هذه الورقة البحثيَّة من أقرانهم في نفس المجال وفقط المؤهلون لتقييم صلاحيَّة الأساليب ودقة الاستنتاجات التي استخلصها الباحثون من النتائج.

ويُحدِّد جوائز الأوسكار متخصصي صناعة أفلام عالميَّة.

وبالمثل، فإنَّ نشر نتائج بحث في مجلة علميَّة عالميَّة تُراجع منالأقران، وهذا يعني بشكل أساسي أنَّعلماءًخبراءً آخرين ومتخصصين في المجال الذي يتناوله البحث قد تحققوا من جودته وصلاحيته.

كما وتستغرق هذه العمليَّة وقتًا طويلًا.

يمكن أن يصل إلى ستة أشهر أو عام وفي كثير من الأحيان أكثر من ذلك،من لحظة تسليم المخطوطة للمجلة، حتى تاريخ النشر النهائي.

وفيما يتعلق بالقرارات الهامة، بالتحديد القرارات التي ستؤثر على كثير من الناس «على سبيل المثال، كيف ينبغي لنا إدارة المنتزهات الوطنيَّة أو المحميات الطبيعيَّة»، قد تحتاج دراسات متعددة للحُجَّة لتُبين أنَّ أغلب العلماء من ذوي الخبرة بموضوع الدراسة أجمعوا على الدليل «تمامًا مثل هيئة المحلفين في قضية محكمة».

ويوفِّر وجود «إجماع علمي» على الدليل الكثير من الأسباب لإتخاذ إجراءات بشأن المسألة أو القضية المُتداولة.

وبالطبع، لا يتفق الجميع على كل شيء ــ فكر في أي موضوع بدءًا من استدارة الأرض، وصولًا بما ستتناول على العشاء أنت وأسرتك الليلة!فلن تجد إجماع ــ وبالتالي إذا اختلف قِلة من العلماء مع مجموعة الأغلبيَّة من العلماء حول مسألة أو قضية معينة، فلا يُعدُّ ذلك بُرهانًا فوريًا بأنَّ الدليل خاطىء، ولا أنَّه رديء أو ذو أهمية إخباريَّة.

ففي النهاية، نحن لا نتحدث عن مُرشَّح لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل حاصل على أقل عدد من الأصوات.

• تفسير الدليل المُقدَّم لنا

يسمع أغلبنا عبارة «الدليل العلمي»من الصحفيين أو مُقدمي الأخبار أو الساسة أو مُعلقي وسائل الإعلام، وغالبًا لا تُتاح لنا فرصة التحقُّق من الحقائق بأنفسنا.

لكن فهم الطريقة التي يتم من خلالها التوصُّل لدليل علمي حقيقي، وما يعنيه، أمرًا حتميًا يُساعدنا في معالجة أهم المسائل والقضايا المؤثرة على حياتنا الخاصة وكذلك العالم الذي نعيش فيه.

وبالتالي في المرَّة القادمة إذا قال شخص ما بأنَّ لديه «دليل علمي» ليدعم قضيته، وجِّه إليه قليلًا من الأسئلة.

ما الجهة التي قامت بتمويل الأبحاث ولماذا؟ كم عدد الأدلة المتوفرة وكيف تم جمعها؟ هل كان حجم أو موقع العينة يُمثِّل الحالة «الفعليَّة»؟هل تم نشر البحث في مجلة مُعترف بها دوليًا ومراجعَة من قبل أقران أو نُظراء، أمْ أنَّه مجرَّد بحث نُشِر على موقع شخصي أو موقع منظمة على الإنترنت؟ هل أجمع أغلبيَّة العلماء على نتائج هذا البحث؟ إذا اختلف عدد قليل من العلماء حول النتائج، هل كانوا مؤهلين لتقييم موضوع البحث؟

«على سبيل المثال، دكتور متخصص في الطب وعالِم فلك، كلاهما عالم لكن لا يعني ذلك أن عالِم الفلك مؤهل لإجراء عملية جراحيَّة في القلب!».

وإذا أدَّعى شخص ما وجود «نقص» في أدلة القضية المُتنازع عليها، اطلب منه التوضيح.

هل يقصد أنَّه قد تم مراجعة البحث من قبل أقران ولم يعثروا على أي دليل للتأثير؟ أمْ، يقصد عدم تمويل أي جهة للبحث المعني بتدارس المسألة أو القضية حتى الآن؟ فكل سبب منهم لا يعني الشيء نفسه.

وكما يُقال: «غياب الأدلة لا يعني عدم وجودها!».


  • ترجمة: نهى سليمان.
  • تدقيق: هبة فارس.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر