الفيزياء والانتخابات
«عندما يتدخل العلم في صناديق الاقتراع»


في العديد من الدّول حول العالم وباختلاف الأزمنة، نجد ملامح «سلوكٍ عالميٍّ» عند دراسة مزايا الانتخابات؛ مثل إحصائيَّات أداء المُرشَّحين ونسب المشاركة.

فهل يُمكن حقًّا التّنبّؤ بتصرُّفات المُنتخِبين، مثل توقّع سلوك الذَّرّات في الفيزياء؟

ففكرة إطاعة البشر لقواعد تقود إلى اتّباع أنماطٍ جماعيَّة قابلة للتوقُّع ليست بالجديدة، حيث طَرحها العديد من المُفكرِّين للنّقاش، على غرار الفيلسوف السّياسيّ « جون ستيوارت ميل-John Stuart Mill»، ومُؤسّس علم الاجتماع الحديث «أوجست كونت-Auguste Comte»، وكذلك «أدولف كويتيليت-Adolphe Quételet». فقد يكون الأفراد أحرارًا في الاختيار، لكنّ النظريَّة تتحدَّث عن تفاعل العديد من الأفراد فيما بينهم، وستكون خياراتهم مُتأثرة بخيارات غيرهم؛ ممَّا قد يؤدي إلى ظهور سلوكٍ جماعيٍّ مُنظَّم. وخلال العقدين الماضيين، كانت فكرة أخذ البشر كـ«ذرَّاتٍ اجتماعيَّة»، ألهمت العديدين للقيام بالتّحقيقات، وكان ذلك مُمكنًا نظرًا لوجود عدد كبير من البيانات الّتي تخص الظّاهرة الاجتماعيَّة، وبوجود حواسيبَ قويَّة أيضًا لتسهيل العمليَّة.

وقد طُوِّرت الفيزياء الإحصائيَّة من أجل التعامل مع مجموعات كبيرة من الجسيمات، ومَنحت لنا أطرًا نظريَّةً لفهم هذه الأنظمة. ودون شك، فإنَّ البحث في الذرَّات الاجتماعيَّة لن يأتي دون عقبات. فتعقيدات الأفراد وتشابك تفاعلاتنا كبشر يكبح إمكانيَّة وضع مبادئ وقوانين كتلك التي تُفسِّر عالم المادَّة. ومع ذلك، فالأنماط المُنتظمة في الظّواهر الاجتماعيَّة الجماعيَّة تَظهر بكثرة، ويُعبَّر عنها من خلال نماذجَ بسيطة.

وإنَّ دراسة الفيزيائيين للانتخابات يعُود إلى نهاية التسعينيّات من القرن الماضي. وحتّى الآن، تمّت دراسة ونمذجَة العديد من أنواعِ الانتخابات في مُختلف أنحاء العالم، وتمّت مُعالجة العديد من القضايا المُتعلّقة بذلك. وفي هذه الدّراسة، سنُناقشُ النّتائج الحديثة للتّنافسِ بين المُرشّحين في الانتخابات، وكذلكَ إحصائيَّات نسب المشاركة.

نمط أداء عالميّ

إنَّ العديد من المُرشّحين يتنافسون في الانتخابات، من أجل منصب واحد أو أكثر. ونتائجهم قد تتأرجح من نجاحٍ ساحق إلى فشل تامّ. فكيف نحصل على هذه الفوارق الكبيرة بين النتائج؟

قام «رايموندو كوستا-Raimundo Costa Filho» وزملاؤه في عام 1999، بدراسة إحصائيَّات المُنتخبِين في الانتخابات العامّة، الّتي جرت في البرازيل سنة 1998. وفي انتخابات القائمة النسبيَّة في البرازيل، وعلى عكس ما يحصل في الولايات المتَّحدة، فلكُلِّ مقاطعة انتخابيَّة هناك بضع عشرات من المُمثِّلين، وعدد المقاعد التي يفوز بها الحزب تكون مُتناسبة مع عدد الأصوات التي يحصل عليها جميع المُرشَّحين عنه.

وقد اعتبر كوستا وزملاؤه جميع الأصوات المُتحصِّل عليها من طرف المرشّحين، الفائزين منهم والخاسرين، بغض النظر عن مقاطعاتهم الانتخابيَّة أو انتمائهم السّياسيّ. وبعيدًا عن نسب النجاح العالية أو الضئيلة للمُرشّحين، كانت الأصوات الّتي تحصَّل عليها المُرشّحون (نُعبِّر عنها بـv) مُتناسبة عكسيًّا مع (v). والتّحليل الّذي قام به الفريق على الانتخابات البرازيليَّة، أهمل عاملًا جوهريًّا في الحياة السياسيَّة لمعظم الدّول، وهو : تأثير الأحزاب.

فنجاح المُرشَّح للانتخابات يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على شعبيَّة وبرنامج حزبه. وتعكس نتائج الانتخابات البرازيليَّة -وتلك البلدان التي لها نفس طريقة الانتخاب- التعقيد، حيث تتشابك آثار التنافس بين الأحزاب نفسها، والمرشحين من نفس الحزب. وبأخذ خصوصيَّات المشهد السياسي لكل دولة، سيكون صعبًا على الفرد توقُّع نتائج متوافقة عبر العالم أجمعه.

ولهذا السبب، قُمنا باقتراح العديد من التحاليل لانتخابات القائمة النسبيَّة. للفصل بين دور الحزب والمُرشّح المُتغيّر، فالمفتاح لن يكون أداء المُرشَّح المُعبَّر عنه بالأصوات المُتحصّل عليها، بل سيكون معدَّل الأداء النّسبي للمُرشَّحين من نفس الحزب. وهكذا، عند كُلِّ لائحة انتخابيَّة للأحزاب، نقوم بتقسيم الرّقم (نعبِّر عنه بـv) للأصوات التي تحصَّل عليها كُلُّ مُرشَّح بمعدّل (نعبِّر عنه بـv0) لجميع المُرشَّحين على اللائحة.

وكما تُبيِّن الصورة أدناه، فإنَّ جزءًا من المُرشَّحين مع عدد معين من الأداء النسبي، هو ثابت بشكل ملحوظ في مختلف البلدان. وكذلك في نفس البلد بأوقاتٍ مختلفة. وهذا النمط العالميّ في سلوك المُنتَخِبين الظاهر في انتخابات أُجريت على مدى نصف قرنٍ كامل من الزمن، يقترح وجود خصائص أساسيَّة تقبع وراء الحراك السّياسي، مستقلّة عن الأبعاد الثّقافيَّة، والتاريخيَّة، والاقتصاديَّة، والتكنولوجيَّة، للأماكن الّتي أجريت فيها الانتخابات.

الالالاالالال

نقوم بنمذجة الانتخابات كعمليَّة شفويَّة، بدءًا من المُرشّحين، وتتفرَّع بعد ذلك إلى مجتمع المنتخِبين عبر علاقتهم الاجتماعية. فكُلُّ مرشَّح يقوم بإقناع اتصالاته المباشرة مع نسبة احتمال مُعيَّنة (نعبِّر عنها بـr). فيصبح المنتخِبون المقتنعون بعد ذلك نشيطون في الحملة الانتخابيَّة للمُرشَّح الذي اختاروه. وفي نموذجنا، اقتنع المنتخِبون بعدم تغيير رأيهم. وتنتهي الحملة الانتخابيَّة عند اختيار جميع المنتخِبين مرشّحهم المفضّل.

نأخذ عدد الاتّصالات (نعبِّر عنه بـk) لكُلِّ فردٍ، لتكون متغيِّرًا عشوائيًّا يُعبَّر عنه بـ {P(k) ∝ k−α}. وتعود هذه التّوزيعات الواسعة إلى التنوع الواسع في الميول الفرديَّة والمواقف الاجتماعيَّة. ويُنتِج النموذج توزيع أداء المُرشّحين كما يَظهر في الصورة أعلاه. وبالإضافة إلى ذلك، تكون النتيجة دقيقة باحترام جزئيّتَي (r) و(α). وليس مُفاجئًا أن يكون المُرشّحون الناجحون هم الذين حصلوا على أكبر عددٍ من الأصوات في المرحلة الأساسيَّة للعمليَّة الشفويَّة من الحَملة.

نسبة المُشاركة

إنَّ التقليد والتأقلم هما المِيْزتان الأساسيَّتان للذرَّة الاجتماعيَّة، وهي التي تسلب في معظم الأحيان حريَّة الفرد في اتخاذ القرارات. كما إنّ معرفة تأثُّر قرارات الناس بالأشخاص المتصلين بهم هو أمر جوهري في التسويق، ورسم السياسات، وفهم الهلع السياسي واسع النطاق، وفي العديد من المجالات الأخرى أيضًا.

وفي هذا الصّدد، قام «كريستيان بورجيزي-Christian Borghesi» وزملاؤه باستعمال بياناتٍ انتخابيَّة لمناقشة دور الاتصالات في أهم قرار يتَّخذه المُصوِّت: هل يجب عليّ التصويت أم لا؟ وكانت إحصائيَّات نسب المشاركة في الانتخابات، متوفرة على مستوى البلديات في العديد من البلدان ولسنوات مختلفة، لذلك من الممكن التّحقُّق من إمكانيَّة وجود ارتباطات مكانيَّة بين نسب المشاركة في مدن مختلفة.

وقام الفريق باستعمالِ مُتغيّر يُسمَّى بـ«نسبة المُشاركة اللوغاريتميَّة (LTR)» (وهو اللوغاريتم الّذي يُمثِّل معدّل عدد الأصوات المُسجلَّة التي شاركت في الانتخابات، إلى عدد الّذين لم يشاركوا). «وفي تحليلهم اضطرَّ الباحثون لتعديل الـ(LTR)، ولن نكون بحاجة لمعرفةِ التفاصيل». وقد وجد الفريق أنَّ رسم بيانات اللوغاريتم يُعطينا شكلًا موحّدًا يُشبه جرسًا مشَّوه الشكل بالنسبة للبلديَّات التي لها نفس عدد السكان تقريبًا.

وهذا ينطبق أيضًا على بلدانٍ مختلفة في عمليَّات انتخابيَّة مختلفة. وكانت النتيجة الأساسيَّة للتحليل أنَّ المُشاركة في الانتخابات ليست مستقلة في مناطق عديدة. فنسبة المشاركة مرتبطة رغم بُعد المسافات. كما وقام الباحثون بأخذ عيِّنة انتخابات أقيمت في العديد من الدول الأوروبيَّة.

بالإضافة إلى ذلك، قام الباحثون باستنساخ الظاهرة في نموذجٍ يُظهر أنَّ مشاركة المُصوّتين في انتخابات معينة تكون فقط إذا ما تجاوز ميولهم نحو التصويت عتبةً معينة. ويعود ذلك الميول إلى أسبابٍ متعددة، منها: النّزعة الفقهيَّة الخاصة بكل فرد، و«المجال الثقافي»؛ الذي يختلف بشكلٍ بطيء عبر الزمان والمكان، وهو المسؤول عن الارتباطات المكانيَّة بعيدة المدى لنسب المشاركة.

نُفرِّق بين آليّتَين تؤثّران على المجال الثقافي. أوّلًا؛ يُسافر الناس إلى المدن المجاورة ويتفاعلون مع الغرباء، حاملين معهم خصوصيَّة ثقافتهم المحليَّة ويتبادلون الأفكار والمعتقدات. وبفعلهم هذا، يقومون بالتقريب بين الاختلافات الثقافيَّة للمناطق المتجاورة. وكنتيجة لذلك، ينتشر المجال الثقافي على مناطقَ مُقسَّمة جغرافيًّا. ثانيًا؛ مزاج المجتمع في منطقة معينة يمكن أن يخضع لتأثير أحداث معيّنة؛ مثل إغلاق مصنع، أو بناء منشأة جديدة. وأحداث كهذه، يمكن نمذجتها عبر إدراج مصطلح «الضّجيج العشوائيّRandom-noise» في المعادلة التي تُمثِّل توزيع المجال الثقافي.

كما وتؤكد النتائج التي قمنا بمناقشتها على أنَّ الانتخابات هي ظاهرة يمكن فهمها كمّيًّا، باستعمالِ مفاهيم وأدوات الفيزياء. وقد بدأ هذا الخط الجديد من الأبحاث بالتنقيب في المعلومات الموجودة بوفرة عن البيانات الانتخابيَّة. وهو يمنح أملًا في تسليط الضوء على عمليات اتخاذ القرار للمُصوِّتين، ويمكن أن يكون له أثرٌ بالغ على سياسات الحكومات والأحزاب، وتصميم النُظم الانتخابيَّة، وكذلك تنظيم الحملات الانتخابيَّة السّياسيَّة.


إعداد: وليد سايس
تدقيق: هبة فارس
المصدر