بالنسبة لجوردن غرافمان (Jordan Grafman) كان الأمر مجرد رؤية لجزء من الثانية: «منذ 15 عامًا توفيت والدتي. كنت متجهًا نحو آخر الشارع لاستقل حافلة في الخامسة صباحًا، عندما نظرت لآخر الشارع رأيت شخصًا ظننته أمي، على الرغم من أن والدتي متوفية منذ أسبوع، نظرت للوراء وما كنت قد رأيته -بغض النظر عما كان- اختفى»، هذا ما قاله غرافمان لمجلة (live science).

لقد خدعت هذه الومضة الخاطفة غرافمان في إدراكه الحسي، والذي هو باحث في علم الأعصاب الإدراكي ومدير بحوث إصابات الدماغ في معهد شيكاغو لإعادة التأهيل. أضاف غرافمان: «بالنسبة لي، هذا يعد تجربة روحانية. وكعالم رأى شيء كهذا؛ فأنا أرغب بمعرفة ما حدث لدماغي».

يقوم غرافمان وزملاؤه الآن بتحديد بعض من العمليات الدماغية التي تؤدي للحظات فائقة الحدود كهذه. واتضح أن التجارب الغموضية قد تنبع من الدماغ عندما يتجاهل الموانع، مما يفتح بابًا للإدراك الحسي، حسب ما وجد الباحثون.

ملامسة اللامحدود:

خلال التجارب الغموضية يشعر الناس أنهم على اتصال بقوة خارقة، وغالبًا ما يصفونها باكتساب معرفة خفية أو رؤية الوحي. وعلى الرغم من أن الناس في جميع أنحاء العالم سجلوا اختبار تجارب روحانية بدءًا من تجربة الاقتراب من الموت حتى رؤية مبالغ بها، ونهاية بغشوة تأملية. هذا النوع من الرؤية بقي يكتنفه الغموض مع قليل من أبحاث علم الأعصاب لشرح أسس هذه الظواهر في الدماغ.

اقترح بحث سابق معسكرين واسعين لنظريتين؛ لتفسران الأصل الدماغي للتجارب الروحانية والتي يطلق عليهما “الدفع” و “السحب” على التوالي.

«تناقش نظرية الدفع أن تفعيل بقعة واحدة من “بقعة للإله” تسبب اعتقادات روحانية، مقترحةً أنه في حال تضرر هذه البقعة قد يقلل من الحالة الروحانية»، هذا ما قاله جوزيف بولبوليا (Joseph Bulbulia) الباحث في الدراسات دينية من جامعة فيكتوريا في ويلينغتون في نيوزيلاند في تصريح. وأضاف: «في المقابل تناقش نظرية السحب أنه في حال كبح الوظائف المثبطة؛ فإن ذلك يفتح للدماغ باب التجارب الغموضية. إنه موضوع مثير للجدل ولقد شرعنا بتوضيح النقاش».

يملك الآن السيد غرافمان و زملاؤه الدليل لاقتراح أن نظرية السحب قد تساعد في شرح هذه التجارب.

وفي دراستهم الجديدة، قام العلماء بتحليل 116 جندي خاضوا حرب فيتنام، ممن لديهم تضررًا بالدماغ واختبروا تجارب غموضية، وقارنوها مع 32 من المحاربين القادمى الذين لم يكن لديهم أي إصابات دماغية أو اضطرابات عصبية، وجميع الجنود خضعوا لفحوصات نفسية قبل وبعد المعارك.

قال غرافمان: «غالبًا ما صرح الجنود أنهم سمعوا كلمة من الله أو اختبروا رؤية عائلاتهم. هذه كانت حالات مشتركة من التجارب الروحانية لدى الجنود».

وأجرى الباحثون مقابلات مع المرضى وذلك باستخدام جدول لقياس الحالة الروحانية، وهو عبارة عن اختبار معد باحترافية لتحليل تقارير التجارب الغموضية. تم سؤال المشاركين عن مشاعر الانسجام والفرح، وكذلك شعور تجاوز الزمان والمكان. كما قام العلماء يإجراء مسح مقطعي للدماغ بدقة عالية لجميع جنود حرب فيتنام المشاركين بالدراسة.

ووجد الباحثون أن الأضرار التي لحقت بالفص الجبهي والصدغي كانت مرتبطة بخبرات روحانية أكثر. ووجدت الأبحاث السابقة بأن الفص الجبهي والذي يقع بالقرب من الجبهة مرتبط بالحركة، وحل المشاكل والذاكرة واللغة والحكم من بين وظائف أخرى. بينما الفص الصدغي المتمركز في أسفل الدماغ مرتبط بالحواس واللغة والذاكرة.

ولقد كشف استقصاء إضافي بأن الضرر لمنطقة معينة بالدماغ والمعروفة باسم قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية؛ ارتبط بشكل ملحوظ بالروحانيات. ووجد بحث سابق بأن هذه المنطقة الدماغية والتي تقع في الفص الجبهي هي المفتاح لفرض كبح تجارب كتلك.

وقال غرافمان: «إن الفص الجبهي من أكثر المناطق الدماغية تطورًا، كما أنها تساعد في السيطرة على المعلومات الخاصة بالإدارك الحسي التي نستقبلها من العالم من حولنا. عندما يقوم الفص الجبهي بوظيفته الكابحة الأمر الذي يفتح باب الإدراك الحسي، مما يزيد الفرص لحدوث تجربة روحانية».

 

مدخل الدماغ للإدراك الحسي:

لقد فحص بحث سابق الروحانية في الدماغ على عدد قليل من المتطوعين، ولم يقم بإجراء التحليلات قبل وبعد الإصابة الدماغية. والنتائج الجديدة تعد الأولى من نوعها التي قامت بتحليل الوظيفة الذهنية لدى الأشخاص قيد الدراسة قبل وبعد الحرب، ودراسة عدد كبير من المتطوعين. هذا بحسب ما قاله الباحثون.

وبحسب ما قاله العلماء، فقد أشارت النتائج الجديدة بأن فعالية الفص الصدغي يمكن أن تولد تجارب روحانية. كما اتضح بأن قشرة الفص الجبهي الظهرية الوحشية لها دور بالغ الأهمية في تفسير هذه الظواهر.

ويشير الباحثون بأنه عندما يتم كبت وظائف الدماغ؛ عندها يخضع الناس لتجربة من دون تفسير مباشر، وعندها يرجعها الدماغ لقوة خارجة عن الطبيعة.

قال غرافمان: «كلما زاد فهمنا للدماغ أكثر كلما استطعنا خلق أساسات متقدمة، بالإضافة لتفسير النتائج الجديدة في إطار سريري».


 

المصدر