في أقصى شرق العالم، وداخل أنفاق بجبل جرانيت قريب من خليج بايا يبعد عن هونغ كونج حوالي 55 كم، يقبع هناك مفاعل نووي يُستخدم للأغراض العلمية، حيث نوهت الحساسات الدقيقة على تواجد نوع رابع من النيوترينوات، التي تعتبر أكثر الجسيمات غموضا و توافرا في الكون.

النيوترونات هي جسيمات متعادلة الشحنة الكهربية، وتتأثر بقوة الجاذبية، والقوى النووية الضعيفة. وتتفاعل مع الجُسيمات المحيطة بها بصورة ضعيفة جدًا، مما يتيح لها الفرصة أن تمر خلال جسدك بسهولة جدًا، ترليونات منها في الثانية الواحدة. تحتوي عائلة النيوترونات على ثلاثة أنواع، وهي اليكترون نيوترينو، وتاو نيوترينو، وميون نيوترينو، ولكن ما تم اكتشافه مؤخرا بالقرب من خليج بايا, يفتح الأبواب على مصراعيها، لإضافة نوع جديد من النيوتريونات.

«النيوترينو العقيم» هذا الأسم هو ما تم إطلاقه على النيوترينو الرابع الذي تم التوصل اليه مؤخرا، فهذا الجُسيم لا يحمل أية شحنة كهربائية، ولا يستجيب لأي قوى طبيعية أخرى سوى الجاذبية، ويكشف عن نفسه عند التحول إلى أي نيوترون آخر، سواء اليكترون أو تاو أو ميون، ويخبرنا «Stephen Parke» الفيزيائي بمُسّرع Fermi الدولي بباتفيا “إن هذا الاكتشاف سيفتح آفاق جديدة للبحث العلمي، وخاصة في فيزياء الجُسيمات”.

احتمالية تواجد «النيوترينو العقيم» تأتي نتيجة عدم تطابق النظرية مع التجربة، فإذا أصدر المفاعل النووي شعاع من نوع واحد من النيوترونات، فالنظرية تتنبأ بأن جزء من هذة النيوترونات، سوف يغير من هيأته ليتحول الى نوع آخر، إذا ما قطع هذا الشعاع مسافة طويلة.

عند تحليل 300 ألف من جُسيمات «electron antineutrinos»، وهي المادة المضادة للأليكترون نيوترينو، والتي تم جمعها من المفاعل النووي بخليج دايا، وذلك على مدار 217 يوم، وجد العلماء بأن هناك نقص بمقدار6%، من عدد الجُسيمات المتوقع إنتاجها، مما يدل على أن هناك نوع جديد من الجُسيمات، غير متواجد بالنموذج الفيزيائي القياسي للجُسيمات.

ولكشف هذا الخلل افترض العلماء بأن جزء من ال «electron antineutrinos»، قد تحولت الى « نيوترينو عقيم »، أخف وزنًا من النيوترينو المُتعارف عليه، ويمثل جزء من المليون من كتلة النيوترينو العادي، وقد تكرر هذا الخلل أيضا عندما تم إجراء تجربة مشابهة، في المفاعل النووي بفرنسا. وعند دراسة الأجسام المضادة للميون نيوتريون بمسرع الجُسيمات، لوحظ وجود فائض من «electron antineutrinos»، والذي يدل على وجود نوع أخر من النيتوترونات الأخف وزنًا والغير مرئية.

النتائج القادمة من خليج دايا تعتبر أدق القياسات لمستوى الطاقة التي يمتلكها «electron antineutrinos»، ولكن الدراسات الإحصائية لمستوى الخلل الحادث، ليست كافية لإثبات تواجد جُسيم رابع، فالنتيجة هي «Three-Sigma» أي أن هناك احتمالية بمقدار 0.3% أنها لم تتحول الى «نيوترينو عقيم»، ولكن هذة النسبة ليست مقبولة، فحتى يتم إعلان هذا الاكتشاف بشكل رسمي، يجب أن تكون النتيجة «Five-Sigma».

والمفاجأات القادمة من خليج دايا لا تتوقف عند هذا الحد، فبجانب احتمالية تواجد «نيوترينو عقيم»، فإن العلماء لاحظوا زيادة «electron antineutrinos» عن المتعارف عليه، وذلك عند استخدام مقدار طاقة يساوي 5مليون اليكترون فولت، وهذا دليل على أن المجتمع العلمي الفيزياء على أعتاب اكتشاف أخر، أو أن العلماء قد حدث خلل بحسابتهم أثناء حساب مقدار الجُسيمات الناتجة عند هذا الحد من الطاقة.

“إذا ما تم إثبات تواجد النيوترينو العقيم، فإن هذا سوف يحول المجتمع الفيزيائي والعلمي رأسًا على عقب، وقد يُحدث ضجة أكبر من اكتشاف بوزون هيغز، الذي يقضي بأن الجُسيمات لها كتلة”، هذا ما صرح به عالم الفيزياء « Parke ».

يضيف عالم الفيزياء الأيطالي « Carlo Giunti » ” اكتشاف هذا النيوترينو العقيم، أمر هام للغاية، لأنه سيكون من الجُسيمات التي لا يمكن استيعابها في النموذج القياسي للجُسيمات “.

من أولى الاختبارات التي افترضت وجود النيوترينو العقيم، هي السائل الوامض لاكتشاف النيوترينو، وقد أجريت بالمعمل الوطني، بولاية نيومكيسكو من عام 1993م حتى عام 1998، فعند تسليط شعاع من ميو نيوترينو، على 167طن من الزيوت المعدنية، فقد تحول الميو-نيوترينو، إلى « electron antineutrinos »، مما يتطلب وجود نوع رابع من النيوتريونات. وبين عامي 2002 و2012م، تم إجراء تجربة أخرى ولكن بمعمل fermi، وأطلق عليها اسم MicroBooNE، وذلك باستخدام الأرجون السائل الذي وضع على مسافات مختلفة، حتى يلتقط تحول النيوترونات من نوع لآخر.

في العقد المقبل سوف تبدأ الاختبارات، أسفل مختبارات Fermi، حيث سيقطع النيوترينو مسافة قدرها 1300كم، حتى يصل الى معمل Stanford، وستكون كل هذه الرحلة تحت الأرض، حيث تتواجد الكاشفات، لالتقاط تحول الجسيمات من نوع لآخر.

FERMILAB

a

وفي غضون ذلك، تعاون العلماء في كُلِ من معامل Fermi، ومعامل خليج دايا، للبحث عن أي دلائل تخص جُسيم نيوترينو العقيم، ولكن حتى الآن البيانات القادمة من مسرع الجسيمات، ومن معامل البحث لا تشير بأي دلائل جازمة على وجوده، ولكن الجميع يأمل في الوصول لنتائج واضحة تمامًا بشأنه.

إذا ما تم إثبات تواجد هذا الجُسيم، فمن المتوقع أن يكون له أقارب أثقل منه بألف مرة. بالإضافة إلى أنه سوف يفتح الباب، أمام دراسة أحد الغاز هذا الكون، وهي المادة المظلمة “غراء الجاذبية الخفي” التي تساهم في الحفاظ على ترابط المجرات ببعضها البعض، وللوصول للبصمة الخاصة لهذه الجُسيمات، سوف يتم استخدام تجربة يطلق عليها « KATRIN »، وهذه التجربة تفحص الاضمحلال الإشعاعي لأحد نظائر الهيدروجين، وهو « tritium »، وذلك بمعهد Karlsruhe بألمانيا.

أيضا النيوترينو العقيم الهائل، الذي تزيد كتلته بمقدار تريليون مرة عن كتلة الأليكترون، قد يقوم بالكشف عن أحد الألغاز الأخرى، وهي عدم التناسق بين المادة، ونظيرتها من المادة المضادة في الكون.


 

المصدر