ما الذي يميّز البشر عن بقية الحيوانات؟ سؤالٌ لطالما كان واحدًا من أقدم المعضلات الفلسفية. والجواب الشائع هو أن البشر -ودونًا عن سائر الكائنات الحية- قادرين على تفهّم أن الآخرين غيرهم يمتلكون عقولًا كعقولهم. وفي هذا الصدد، تقترح دراسة حديثة أن الغِربان وهي طيورٌ تمثّل رمزًا للذكاء والحكمة في العديد من الثقافات؛ تشترك وبالحد الأدنى مع الإنسان في قابليتهِ للتفكير بشكلٍ مجرّد حول عقول الآخرين، وبالتالي فإنها تبني سلوكها على أساس تصوّراتها الذاتيّة عن الآخر.

خرجت الدراسة بنتيجةٍ مفادها: إنه وفي حالة ما إذا كان الثقب الموجود في الباب مفتوحًا؛ فإن الغربان تقوم بحماية مخابئ الغذاء، لتحول دون انكشافها، بينما لم تُظهر أي ردة فعل في حال كون الثقب مغلقًا، على الرغم من وجود أصوات معينة. وتسلّط نتائج هذه الدراسة الضوء على الفهم العلمي لنظرية العقل، أي القدرة على أن نعزو (ننسب) حالات عقلية معينة على الآخرين بما في ذلك الرؤية.

أُجريت معظم الأبحاث الخاصة بنظرية العقل، على الكائنات الحية القريبة من الإنسان كالشمبانزي والأنواع الاخرى. وفي حين أن هذه الدراسات، ذهبت إلى أن للحيوانات القدرة على إدراك ما يراه الآخرين مما يعطيها امتيازًا في التنافس على الحصول على الغذاء. فعلى سبيل المثال، فإنها (الحيوانات) تعتمد على اختبار قدرة الحيوانات الأخرى على رؤية حركات الرأس أو العين، مزوّدةً إياها بمؤشرات أو “دلائل بصرية”. إلّا أن هناك من يشكّك في كون استجابة الحيوانات في هذه التجارب تستند على الدلائل الخارجية فقط، دون أن تدرك بالفعل طبيعة ما يراه الآخرين. لذلك، يصف معدّو الدراسة وضعية البحوث السابقة قائلين: «لا يزال السؤال قائمًا فيما إذا كان للحيوانات من غير البشر، أن تعزو سلوك غيرها -كالرؤية مثلًا- من دون الاعتماد على دلائل سلوكية». ولغرض تجنّب مثل هذا الإشكال، فقد اعتمد الباحثون في هذه التجربة على ثقوب في نوافذ لغرفٍ متصلة ببضعها، بحيث يمكن فتحها وغلقها دون أن تكون الغربان قادرة على رؤية أجسام الغربان، إذ أن سماع الأصوات في هذه الحالة قرينة على وجود منافس محتمل.

تعتبر الغربان عيّنة مناسبة لتجربة موضوع البحث، فبالرغم من التباعد التطوّري الواضح الذي يفصلها عن الإنسان؛ إلا أنها كالبشر تمارس حياة اجتماعية متميّزة في العديد من جوانبها، فهي تبدي استقرارًا اجتماعيًا كبيرًا، وتحافظ على نمط زوجي أحادي الشريك وطويل الأمد، وتتعاون مع بعضها البعض بشكلٍ جيد، وتتمتّع بقدرة تنافسية جيدة، أي بعبارةٍ أدق: تدافع عن مناطق سيطرتها كالبالغين، مستخدمةً أسلوب الأزواج المتناسلة المستقرّة، بينما تعيش حياتها اليومية بأسلوب أشبه بحياة المراهقين. وكل هذه الأسباب السالفة الذكر تدفع لتفضيلها عند البحث عن أنواعٍ حية تتمتّع بإدراكٍ اجتماعي، إذ من الممكن أن تكون الضغوط الاجتماعية المتشابهة تدفع نحو تطوّر قدرات إدراكية متقدّمة ومتشابهة لدى أنواع حيةٍ مختلفة للغاية.

تعتبر القدرة على إخفاء الغذاء على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية لدى الغربان، فقد أظهرت البحوث السابقة أن الغربان تتصرّف بشكلٍ مختلف عند إدراكها أنها مراقبة من منافسٍ آخر. فعلى سبيل المثال، تخفي غذاءها بشكلٍ أسرع عند وجود من يراقبها، ويندر أن تعود لمخبأ سبق وان أخفت فيه غذاءً، إذ أن تصرّفها في كلتا الحالتين يحول دون الكشف عن أماكن المخابئ أمام سارقٍ محتمل. بينما تستغرق وقتًا أطول عندما لا تكون مُراقبة.

تقوم التجربة على تدريب الغربان على النظر إلى الشخص الذي يجري التجربة، عبر ثقوب موجودة على نوافذ تفصل بين غرفتين متصلتين، ويمكن فتح هذه النوافذ أو غلقها، عن طريق فتح أو إغلاق هذه الثقوب. ويقوم الشخص في هذه التجربة بتكوين مخابئ للأغذية في الغرفة الملاصقة للغرفة التي يتوجد فيها الغراب، وفي المرحلة الأخيرة من التحضيرات يتمّ تغطية كل النوافذ، عدا الثقوب الموجودة فيما بينها فتبقى مكشوفة، وبعد ذلك يُصار إلى إبقاء المواد المخبّأة (الأغذية) كما لو كان هناك من يراقبها فعلًا. ومن ثمّ يتمّ تشغيل أصوات لغراب منافس عبر جهازٍ خفي، ولم يكن هناك أي غربان في واقع الأمر.

يُعلق الباحث المُعدّ للدراسة والبروفيسور المساعد في جامعة هيوستن كاميرون باكنر (Cameron Buckner) حول نتيجة التجربة قائلًا: «أظهرت نتائج التجربة التي أجريناها إن الغربان يمكن لها أن تلجأ للتعميم، استنادًا على تجربتها السابقة باستخدام الثقب الموجود بين النوافذ للنظر، وكذلك فعند سماعها لأصوات غراب منافس؛ فإنها تتوقّع إمكانية قيام الغربان المنافسة برؤية مخابئ الأغذية، وبناءً على هذه المعطيات، فإننا نرى أن مفهوم الرؤية عند الغربان لا يمكن اختزاله بمجرّد تتبّع مؤشرات بصرية كالتحديق».

أما عن أهمية النتائج، فيضيف باكنر: «تزوّدنا نتائج التجربة بمعلوماتٍ ضرروية في عدة مجالات، فهي تقدّم دليلًا على إمكانية أن تكون الغربان بمثابة نماذج حيوانية، تستخدم في مجالات البحوث حول الإدارك الاجتماعي. كما تقدّم دليلًا حديثًا على القدرات التي تتضمّنها نظرية العقل والتفكير المجرّد، إذ يمكن لهذه النتائج أن تغيّر مفهومنا عن التفرّد البشري، فنحن لا نتشاطر في هذه القدرة مع أقرب الأنواع لنا -مثل الشيمبانزي- وحسب؛ بل مع أنواعٍ أخرى غاية في الاختلاف».


 

المصدر